الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروي عن الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا الْبَجَلِيَّ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ الله، مَا أُرَى صَاحِبَكَ إِلَّا أَبْطَأَكَ، فَنزلَتْ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (1).
وقال الحافظ ابن حجر: وقع في رواية أخرى عند الحاكم (فقالت خديجة)، وأخرجه الطبري أيضًا من طريق عبد الله بن شداد (فقالت خديجة: ولا أرى ربك)، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه:(فقالت خديجة: لما ترى من جزعه)، وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلًّا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أمَّ جميل عبرت لكونها كافرة بلفظ:(شيطانك)، وخديجة عبرت لكونها مؤمنة بلفظ:(ربك) أو (صاحبك)، وقالت أم جميل شماتةً وخديجة توجعًا (2).
وسواءً كان القائل أم جميل أمْ المشركون أمْ خديجة رضي الله عنها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه الحزن لفتور الوحي، وكما مرَّ عند البخاري أن أمَّ جميل زوج أبي لهب - عليها لعنة الله - قالت ما قالت شماتةً، وهذا مما زاد في حزنه صلى الله عليه وسلم، فكان نزول هذه السورة المباركة من إحدى عشرة آية ترضيةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييبًا لخاطره مما أصابه ورفعًا للحزن عنه، فنزلت السورة تنفي مقالة السوء التي فاهت بها الكافرة، ويقسم الله في أولها على حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم. فكيف يفهم من سورة هذا شأنها أن يكون فيها ما يعيب من قريب أو بعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الوجه الثالث: السورة كلها منقبة للرسول صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا من الإشارة إلى معانيها
.
ومن ذلك أن الله بدأ السورة بالقسم، فأقسم بالضحى، ثم أتبعه قسمًا آخر فأقسم بالليل، فالله عز وجل أقسم على ماذا؟ فكان جواب القسم:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} .
(1) البخاري (4951)، ووردت روايات أخرى لهذا الحديث ومعناها يدور حول هذا السبب؛ منها ما رواه الترمذي: عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت إصبعه فقال صلى الله عليه وسلم: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت). قال: الترمذي (3345).
فأبطأ عليه جبريل عليه السلام فقال المشركون: قد وُدِّعَ محمدٌ فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} .
(2)
فتح الباري (8/ 581).
قال السعدى: أي: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أحسن تربية، ويعليك درجة بعد درجة، {وَمَا قَلَى} الله أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإنَّ نفيَ الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحًا إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم الماضية والحاضرة؛ أكمل حال وأتمها محبة الله له واستمرارها، وترقيته في دَرَج الكمال، ودوام اعتناء الله به.
وأما حاله المستقبلة، فقال:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يصعد في درج المعالي ويُمكن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب. ثم بعد ذلك، لا تسأل عن حاله في الآخرة، من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام، ولهذا قال:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة (1).
وفيها قال علي والحسن: (هو الشفاعة في أمته حتى يرضى)(2)،
وقال غيرهما: يعطيه حتى يرضيه في أمته، وفيما أعدَّه له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه من مسك أذفر ويعطيه المقام المحمود والفردوس الأعلى إلى غير ذلك من الإنعام والعطاء (3).
وعلى هذا يتبين أن ما بعد جواب القسم: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} إلى آخر السورة ما هو إلا تفصيل وتوضيح وتدليل على أن الله ما ودعه وما قلاه والقرآن يفسر بعضه بعضًا (4).
(1) تفسير السعدي (1/ 928).
(2)
"زاد المسير" لابن الجوزي (9/ 157).
(3)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 674)، وفتح القدير للشوكاني (5/ 649).
(4)
ومزيد بيان لذلك: فإن السورة التي جاءت بعد سورة الضحى وهي الشرح كالتتميم لهذه السورة، فلا زالت الطمأنينة تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جل جلاله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} ، وقال:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} ؛ يقول الشيخ السعدي في تفسيره: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي الذي لم يصل إليه أحد من =
والسورة نزلت في تعداد نعم الله ومننه على عبده وحبيبه صلى الله عليه وسلم، فكيف وأنَّى للأشقياء أن يجعلوها ذمًّا له صلى الله عليه وسلم؟ (هيهات، هيهات)، ثم عدَّد النعم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه آواه لما وجده يتيمًا، ووفق جدَّه عبد المطلب فَكَفَلَهُ بعد موت أبيه وأمه ثم كفله عمه أبو طالب مع أن أبا طالب له من الأولاد الكثير مع قلة ذات اليد ولكن الله ألقى في قلبه حُبَّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثم في مقام تعداد النعم يخبر عبده بنعمه الأخرى، إذ كان قبل البعثة لا يدري ما يُراد به من أمر النبوة والإيمان، فكانت نعمة الله أن هداه للنبوة وعلمه كما قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وكما في آية الضحى هنا إذ وجده ربه ضالًا عن النبوة لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان فهداه (1).
ثم يعدد الله سبحانه نعمه وفضله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه وجده عائلًا فقيرًا فأغناه بما أفاض عليه من النعم، وغنى النفس، والمقام السامي مقام النبوة خير مقامات أهل الأرض.
ثم كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة من بعده، قال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 9 - 11]، فهي آيات تابعة لما كان بعد النعم المستفيضة السابقة، فكما وجدك يتيمًا فآواك فلا تقهر اليتيم، غافلًا عن النبوة لا تدري الكتاب ولا الإيمان فعلمك وهداك فلا تنهر السائل والمستفتي، وكما كنت عائلًا فأغناك، فحدث بنعم الله مِنْ أمنٍ وعلمٍ ومالٍ ولا تكتمها، فظهر لنا من هذا السياق أن هذه الآيات الثلاث توافق الآيات الثلاث التي قبلها فاستدللنا على معنى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا} بقوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} ؛ لأنه السائل عن العلم (2).
= الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته (تفسير السعدي 1/ 929)، (نظم الدرر للبقاعي 8/ 460).
(1)
تفصيل معاني هذه الآية هو الوجه الرابع من وجوه الرد على فرية القوم وهو من أقوى الوجوه.
(2)
تفسير ابن كثير (14/ 385)، البحر المحيط (8/ 481)، تفسير أبي السعود (9/ 170).