الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا ما حدث بالضبط، فقد جمحت المحبة بالسيوطي وغيره إلى تخطي الحجج الشرعية، والتنصل من مسئولية النص، فألف الرسائل تترًا تحريفًا وتنكرًا لدلالة النصوص الشرعية الصحيحة، التي تدل على أن والديه صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر، وأنهما من أهل النار، ومن أشهرها كتابه الذي أشرنا إليه:(مسالك الحنفا في والدي المصطفى). (1)
الوجه الرابع: هل مجرد ذكر مصير أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وأنهما في النار يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم
-؟
قال السيوطي: ثم رأيت الإمام أبا عبد الله الأبِّي محمد بن خلف بسط الكلام على هذا المسألة في شرح مسلم عند حديث: "إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ" فأورد قول النووي: (وفيه أن من مات كافرًا في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين) ثم قال: قلت: انظر هذا الإطلاق. وقد قال السهيلي: ليس لنا أن نقول ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"(2)، وقال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (الأحزاب: 57)، ولعله يصح ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل فأحيا له أبويه فآمنا به ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا، ولا يُعجز الله سبحانه شيء.
ثم أورد قول النووي: وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار، وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة؛ لأنه بلغتهم دعوة إبراهيم عليه السلام وغيره من الرسل. ثم قال: قلت: تأمل ما في كلامه من التنافي؛ فإن مَن بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة؛ فإن أهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول؛ ولا أدركوا الثاني؛ كالأعراب الذين لم يُرسل إليهم عيسى عليه السلام ولا لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم، والفترة بهذا التفسير تشتمل ما بين كل رسولين، ولكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة؛ فإنما يعنون التي بين عيسى عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم، ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة علمنا أنهم غير معذبين. (3)
(1) نقض مسالك السيوطي للزهراني ص 34، 35.
(2)
المستدرك 3/ 241 من طريق الواقدي، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (6234).
(3)
الحاوي للفتاوي 2/ 198.
قلت - الزهراني -: هذه الشبهة التي يدندن حولها السيوطي ومَن معه وهي أن في ذكر كفر والد النبي صلى الله عليه وسلم أذي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة تهويش، لا يغني صاحبه عن الدليل والحجة والبرهان.
فالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم كل الأذى أن يُرَدَّ ما جاء به، ويُدفع ما أخبر عنه بشبهة واهية، مثل هذه، فنقول: إن الأذى يكون إذا ابتدأ الرجل بسبِّ أبيه وأمه، أو تنقصهما بلا سبب.
أما حكاية ما أخبر به هو صلى الله عليه وسلم في مقام الذب عن سنته، وحماية جناب شرعته من دخن البدعة؛ فهذا ليس بأذى، بل نصر له ولدينه، ولو كان صلى الله عليه وسلم يتأذى منه ما أخبر به على مسمع من الناس، ولو كان فيه أذى له ما أخبر به الصحابة رضي الله عنه وهم أحرص الناس على صيانة جانب النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه أذى له صلى الله عليه وسلم، ما تتابع الرواة من أهل الحديث منذ عصره صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا على تناقل هذا الروايات الصحيحة دون نكير منهم، حتى جاء السيوطي ومن معه ليقولوا لنا، إن حكاية هذا الأمر أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فانظر ما في هذا القول من الشفاعة، بتخطئة أجيال من السلف تناقلوا هذه الرواية في كتاب يُعَدُّ ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل.
نعم، لا ينبغي أن يُردد المؤمن كفر والديه صلى الله عليه وسلم دون حاجة، من علم يُنقل، أو حديث يشرح، أو شبهة ترد، كما أنه هو صلى الله عليه وسلم قاله تطبيبًا لقلب الرجل، ومواساةً له، وما نحن فيه فمن هذا القبيل. ورواية الخبر علم ينقل ليكون حجةً قاطعة على رأس المبتدعة، أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لا تنفع من مات على شرك وكفر، وأنه صلى الله عليه وسلم لم ينتفع بمجرد قرابته، أقرب الناس إليه فكيف بالأبعدين؟ !
وأما رمي الأُبِّي للنووي بالتناقض في الكلام، فمرده إلي قصر فهم الأُبِّي عن عبارة النووي؛ فإن وصف الزمن السابق للنبي صلى الله عليه وسلم بالفترة يُراد به: الفترة من الرسل، وهذا من التعبير عمن لم تبلغهم الدعوة؛ بأنهم من أهل الفترة، وهذا تعبير القرآن الكريم فقد قال الله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} (المائدة: 191)، وأهل الكتاب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجة الرسالية بلا شك.
إذن فتعبير النووي ليس فيه تناقض فوصفه لتلك الحقبة بأنها فترة صحيح، مع كونهم بلغتهم الدعوة وقامت عليهم الحجة، والله أعلم.
وقد اتفق أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا سلى وجوب التصديق بكل ما قاله صلى الله عليه وسلم، سواء احتملته عقولنا أم لا، وسواء وافق أهواءنا وأمنياتنا أم لا، فكما نصدق أن آسيا زوجة فرعون في الجنة، وأن ابن نوح الذي عصاه في النار نصدق كذلك بأن أبويه صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر وأنهما في النار.
أما أن بعض العلماء قالوا: لا يجوز لأحد أن يقول ذلك فالأمر فيه تفصيل:
فأما أن يقوله الشخص بلا سبب، وأن يكرره فرحًا به، أو يعرض به تنقصًا، أو ينال منهما، فلا شك أن ذلك هو النفاق محضًا؛ لأن ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وأذيته من أكبر الكبائر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يؤذي الأحياء بسبِّ الأموات، ولو كانوا أهلًا لذلك، فكيف به في عرضه ونفسه وأهله وماله صلى الله عليه وسلم.
أما إذا قال الرجل ذلك لسبب، كأن يرد الحديث فيبينه، أو يسأل عنه فيجيب، وكذلك إذا رفع المبتدعة عقيرتهم مكذبين بذلك، أو طاعنين فيمن يقول به، كما فعل السيوطي، فحينئذ يجوز، بل ربما يجب التصريح بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ذكر ذلك جوابًا على السؤال.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي تكلم بهذه النصوص وسمعها منه أصحابه وأدَّوها، لم يقل في نص منها إنه لا يجوز لأحد أن يقول بما قلته، بل إن الصحابة أدَّوها ونقلوها، ولو كان لا يجوز لأحد أن يقول ذلك لما نقلوها، أو لَنُقِلَ عنهم شيء من ذلك، والواقع أنه لم يُنقل عن أحد منهم المنع من القول بما قاله صلى الله عليه وسلم وهل يجرؤ مؤمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، موقِّر لسنته صلى الله عليه وسلم متبع لما جاء به أن يقول غير ذلك؟ !
قال السيوطي: وقال الباجي في شرح الموطأ: قال بعض العلماء: إنه لا يجوز أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح وغيره .... (1).
(1) الحاوي للفتاوي 2/ 279، انتهي الرد من كتاب نقض مسالك السيوطي للزهراني.
نقول: لا علاقة لهذا الكلام بمسألتنا؛ فإننا نتفق على أنه لا يجوز أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بأي فعل مباح أو غير مباح، لكن هل يدخل في الأذى له صلى الله عليه وسلم أن نقول بما قاله؟ ونؤمن بما جاء عنه، ونصدقه، ونمرَّ النصوص كما جاءت بالقبول والتصديق، دون تحريف لها عن مواضعها؟ اللهم لا.
وأما قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فيعني: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها - ذنبها - الذي اقترفته، لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها.
فإن قلت: كيف الجمع بين هذه الآية وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} قلت: هذه الآية {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} في الضالين، والأخرى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} في الضالين المضلين أنهم يحملون أثقال من أضلوه من الناس مع أثقال أنفسهم وذلك كله من كسبهم.
{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} معناه: وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها، إلي أن يحمل غيرها شيئًا من ذنوبها {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يعني: ولو كان المدعو ذا قربة كالأب والأم والابن والأخ.
قال ابن عباس: يعلق الأب والأم بالابن فيقول: يا بني، احمل عني بعض ذنوبي، فيقول: لا أستطيع، حسبي ما عليّ. {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يعني: يخافون ربهم {بِالْغَيْبِ} يعني: لم يروه، والمعنى: وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم ويخافوه بالغيب. وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى} يعني: أصلح وعمل خيرًا، {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} يعني: لنفسه ثواب ذلك {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كون الرجل أبويه أو ابنه كافرًا لا ينقصه ذلك عند الله شيئًا، فإن الله يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.
ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل من آبائهم، وكان آباؤهم كفارًا، بخلاف من كونه زوج بغيِّ؛ فإن هذا من أعظم ما يُذم به ويعاب؛ لأن مضرة ذلك تدخل عليه، بخلاف كفر أبيه أو ابنه.
وأيضًا فلو كان المؤمن لا يلد إلا مؤمنًا، لكان بنو آدم كلهم مؤمنين.
إلي أن قال رحمه الله: وأيضًا فإن الله لم يُثْنِ على أحد بمجرد نسبه، بل إنما يثني عليه بإيمانه وتقواه، كما قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13).
وإن كان: "النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا" كما ثبت في الحديث الصحيح (1).
فالمعدن هو مظنة حصول المطلوب؛ فإن لم يحصل، وإلا كان المعدن الناقص الذي يحصل منه المطلوب خيرًا منه (2).
وقال أيضًا: فإن كان الرجل لا يضره كفر أبيه أو فسقه، لم يضر نبينا، ولا إبراهيم كفر آبائهم. (3)
وهذه القاعة العظيمة {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هي المعمول بها عند جميع العقلاء على وجه الأرض، أن كل نفس أو كل إنسان بعمله هو، وأنه ليس من العدل أن يؤاخذ أحد بعمل غيره، قال الله تعالى في معرض ذكر قصة يوسف عليه السلام مع إخوته:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} (يوسف: 79).
* * *
(1) البخاري (3203)، مسلم (2526).
(2)
منهاج السنة 4/ 353: 350.
(3)
منهاج السنة 4/ 376.