الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} .
مسألة في ذكر الاختلاف في إثبات السحر، وأنه حقيقة لا خيال:
واختلف في السحر فقيل هو تخييل فقط ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الاسترباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة.
قال ابن حجر: قال النووي: والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة (1).
لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال أنه تخييل فقط منع ذلك ومن قال أن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعًا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا وعكسه؟
فالذي عليه الجمهور هو الأول وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلَّم وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف.
فإن كثيرًا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه ونقل الخطابي أن قومًا أنكروا السحر مطلقًا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة.
وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص.
وقد دل قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وحديث عائشة على تأثير السحر وأن له حقيقة وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وقالوا: إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد قالوا وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف
(1) فتح الباري 10/ 222.
واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء والسحر الذي يؤثر مرضًا وثقلًا وحلًا وعقدًا وحبًا وبغضًا وتزينًا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقًا بما أصيب به منه وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرًا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه وأيضًا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن؟
فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركًا والمتصل منفصلًا والميت حيًا فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضًا والبغيض محبوبًا وغير ذلك من التأثيرات.
وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 116) فبين سبحانه أن أعينهم سحرت وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهذا كما إذا جر من لا يراه حصيرًا أو بساطًا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى الجار له مع أنه هو الذي يجره فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتقلب الحية فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأي الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها.
وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا بل حركة حقيقية ولم يكن ذلك سحرًا لأعين الناس ولا يسمى ذلك سحرًا بل صناعة من الصناعات المشتركة وقد قال تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66)، ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون لم يكن هذا من السحر في شيء ومثل هذا لا يخفى، وأيضًا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤلاء لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها وأيضًا فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة بل يكفي فيها حذاق الصناع ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والجزاء وأيضًا فإنه لا يقال في ذلك إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها وبالجملة فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده فلنرجع إلى المقصود فصل شر الحاسد إذا حسد. (1)
وقد يستشكل بعضهم أن يكون للسحر تأثير حقيقي وذلك لسببين.
الأول: كون السحر بحد ذاته حقيقة ثابتة إذ هو فيما يتوهمه البعض أمر مناف بقضية التوحيد.
الثاني: أن يقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر فذلك مما يحط (في وهمهم) من منصب النبوة ويشكك الناس فيها، والحقيقة أنه لا إشكال في الأمر البته.
أما الجواب عن الوهم الأول فهو أن اعتبار السحر حقيقة ثابتة لا يعني كونه مؤثرًا بذاته بل هو كقولنا السم له مفعول حقيقي ثابت والدواء له مفعول حقيقي ثابت فهذا الكلام صحيح لا ينكر غير أن هذا التأثير في هذه الأمور الثابتة إنما هو الله تعالى وقد قال الله تعالى عن السحر {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 152) وقد نفى الله عز وجل عن السحر التأثير الذاتي ولكنه أثبت له في نفس الوقت مفعولًا ونتيجة بإذن الله تعالى.
(1) بدائع الفوائد (2/ 449: 453).