الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 - شبهة: ادعاؤهم وقوع النبي صلى الله عليه وسلم في الذنب
.
نص الشبهة:
في آية {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)} (الشرح 3: 2) دليل واضح على أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع في المعاصي، وأنه كان له أوزار تنقض ظهره، لكن الله غفرها له.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: بيان معنى الآية، وفيه عشرة معانٍ.
الوجه الثاني: عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الذنوب.
الوجه الثالث: معاصي الأنبياء كما في الكتاب المقدس.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: بيان معنى الآية، وفيها عشرة معانِ
.
المعنى الأول:
عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك الوزر حاصلًا فسمى العصمة وضعًا مجازًا (1).
قال الرازي: معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك، لو كان ذلك الذنب حاصلًا، فسمى العصمة وضعًا مجازًا، فمن ذلك ما روي أنه حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع، فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد (2).
قال الماوردي: حفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس (3).
فإن هذه الألفاظ التي يتعارض ظاهرها مع العصمة تحتمل وجوهًا من التأويل:
أن (الوزر) و (الغفران) في الآيتين (4) مجازًا عن العصمة، والمعنى: عصمناك عن الوزر الذي أنقض ظهرك، لو كان ذلك الذنب حاصلًا، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
(1) تفسير الخازن 4/ 441.
(2)
تفسير الرازي 32/ 5: 4.
(3)
تفسير الماوردي 6/ 296.
(4)
آية {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} وآية {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}، وقوله عز وجل:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} والمعنى: لولا عصمتنا ورحمتنا لأتيت ما تذم عليه، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع (1).
فسمى رب العزة العصمة (وضعًا) على سبيل المجاز، وإنما عبر عنها به؛ لأن الذنب يثقل الظهر بعقابه، وبالندم عليه في حالة التوبة منه، والعصمة لكونها تمنع وقوع الذنب، تريح صاحبها من ثقل عقابه، ومن ثقل الندم عليه، فعبر عنها بالوضع لذلك (2).
ويشهد لصحة هذا القول: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، من عصمة رب العزة له صلى الله عليه وسلم من كل ما يمس قلبه وعقيدته بسوء، من أكل ما ذبح على النصب، والحلف بأسماء الأصنام التي كان يعبدها قومه، واستلامها، وكذا عصمته من كل ما يمس خلقه بسوء، من أقذار الجاهلية ومعائبها، من اللهو، والتعري، وكذا تشهد سيرته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، من عصمة رب العزة له صلى الله عليه وسلم مما عصمه به قبل النبوة، ومن أن يضله أهل الكفر، وأنى لهم ذلك وقد نفاه الله تعالى:{وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} كما عصمه ربه عز وجل من أن يفتنوه عن الوحي، أو التقول عليه، ولو حدث شيء من ذلك، لوقع عقاب ذلك، الوارد في قوله سبحانه:{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ، وقوله عز وجل:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (الحاقة: 44 - 46).
فهل نقل إلينا ولو بطريق ضعيف أن رب العزة عاجله بالعقوبة في الدنيا مضاعفة؟ أو تخلى عن نصرته؟
(1) كتاب (رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم).
(2)
كتاب (رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم).
الإجابة بالقطع لا، لم ينقل إلينا، وهو ما يؤكد أن الخطاب في آيات الشرط {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} و {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} ونحو ذلك، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع، وبتعبير آخر الشرط في تلك الآيات لا يقتضى الوقوع ولا الجواز.
وإذا صح تسمية العصمة (وضعًا) في قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)} مجازًا، صحح أيضًا إطلاق المغفرة كناية عن العصمة في قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، والمعنى في الآية: ليعصمك الله فيما تقدم من عمرك، وفيما أخر منه.
قال الإمام السيوطي: وهذا القول في غاية الحسن، وقد عد البلغاء من أساليب البلاغة في القرآن؛ أنه يكنى عن التخفيفات بلفظ المغفرة، والعفو، والتوبة، كقوله تعالى عند نسخ قيام الليل:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى قال سبحانه: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} .
وعند نسخ تحريم الجماع ليلة الصيام قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (1).
ووجه إطلاق المغفرة كناية عن العصمة: أن العصمة تحول بين الشخص وبين وقوع الذنب منه، والمغفرة تحول بين الشخص وبين وقوع العقاب عليه، فكنى عن العصمة بالمغفرة بجامع الحيلولة؛ لأن من لا يقع منه ذنب، لا يقع عليه عقاب.
واختيرت هذه الكناية -أعنى الاستعارة- لأن المقام مقام امتنان عليه صلى الله عليه وسلم، ثم المعنى بعد هذا: ليظهر الله عصمتك للناس، فيروا فيك حقيقة الإنسان الكامل، ويلمسوا منك معنى الرحمة العامة، لا تبطرك عزة الفتح، ونشوة النصر، فلا تنتقم، ولا تتشفي؛ ولكن تعفو وتغفر (2).
وعلى ما تقدم فقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ونحوها من
(1) الدر المنثور 6/ 363.
(2)
دلائل القرآن المبين، خواطر دينية كلاهما لعبد الله الغماري.
الآيات مرادًا بها الحث على دوام الاستغفار والشكر لله عز وجل، على ما أنعم عليه من العصمة.
وأقول: إذا لم يسلم الخصم بما سبق من تأويل آيات الذنب والوزر الواردة في حقه صلى الله عليه وسلم، وأخذ بها على ظاهرها، فليبين لنا حقيقة الذنب والوزر الذي ارتكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء قبل النبوة أو بعدها؟ ! .
إنه إن كان ثمَّ ذنب فلن يَخْرُج عن ترك الأَوْلَى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين وترك الأولى ليس بذنب؛ لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل، والمباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح في عصمتهم ومنزلتهم؛ لأنهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات مما يتقوون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة، وصار قربة (1).
قال أبو حيان: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} : كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك، كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة، لمن لم يصدر منه زيارة، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه (2).
فمعنى {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)} : عصمناك من الأوزار التي من شأنها أن تقصم الظهر، فلم يصدر عنك أي ذنب لا قبل النبوة ولا بعدها، إلا أقل الصغائر التي فسرها القرآن الكريم، والسنة النبوية فقط، ولا تُعتبر ذنوبًا.
وكيف يتخيل صدور الذنب في حقه صلى الله عليه وسلم وقد عصمه ربه عز وجل في قوله وفعله وخطابه بقوله سبحانه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} ، وقال عز وجل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} .
ومن تأمل إجماع الصحابة رضي الله عنهم على اتباعه صلى الله عليه وسلم والتأسي به في كل ما يقوله ويفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير، إلا ما دل على اختصاصه به، ولم يكن عندهم في ذلك
(1) الشفا 2/ 147.
(2)
البحر المحيط 8/ 484.