الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَأَخَّرَ؟ فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ: "إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِالله أَنَا"(1).
وعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه أنَّهُ سَأَل رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَلْ هَذه لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَا رَسولَ الله قَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالله إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ للهَّ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ (2).
وعن أنسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْألونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَالله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ؛ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي (3).
وقال ابن حجر: فِيهِ إِشَارَة إِلَى رَدّ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمغْفُور لَهُ لَا يَحْتَاج إِلَى مَزِيد فِي الْعِبَادَة بِخِلَافِ غَيْره؛ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنه يُبَالِغ فِي التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة أَخْشَى لله وَأَتْقَى مِنْ الَّذِينَ يُشَدِّدُونَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ المشَدِّد لَا يَأْمَن مِنْ المُلَل بِخِلَافِ الْمقْتَصِدَ فَأنّهُ أَمْكَنَ لاسْتِمْرَارِهِ وَخَيْر الْعَمَل مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبه (4).
الوجه الرابع: النبي صلى الله عليه وسلم لا يحابي أحدًا
.
قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [الأنعام: 52].
قال السعدي: أي: لا تطرد عنك، وعن مجالستك، أهل العبادة والإخلاص، رغبة في
(1) البخاري (20).
(2)
مسلم (1108).
(3)
البخاري (5063).
(4)
فتح الباري (9/ 7).
مجالسة غيرهم، من الملازمين لدعاء ربهم، دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها، ودعاء المسألة، في أول النهار وآخره، وهم قاصدون بذلك وجه الله، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل، فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم، وإدنائهم، وتقريبهم، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلاء، وكلّ له حسابه، وله عمله الحسن، وعمله القبيح، {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، أشد امتثال، فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبَّر نفسَه معهم، وأحسن معاملتهم، وألان لهم جانبه، وحسن خلقَه، وقربهم منه، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم (1).
ولهذه الآية سبب نزول، فعن المقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قال: فِيَّ نَزَلَتْ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ وَكَانَ المُشْرِكُونَ قَالُوا لَهُ تُدْنِي هَؤُلَاءِ (2).
وفي رواية: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ الله أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (3).
فهكذا، نهى الله سبحانه وتعالى نبيه أن يحابي أحدًا من الكافرين أو المسلمين، فكيف تقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم يرضي قومه؛ لأن الله نهاه عن طاعة الكافرين أو المنافقين؟ هذا من السفه في الفهم، وهذا كان دأب النبي صلى الله عليه وسلم مع الكافرين والمسلمين، فكان لا يخشى في الله لومة لائم.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُوميَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ
(1) تفسير السعدي (257).
(2)
مسلم (2413).
(3)
مسلم (2413).
فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ حِبُّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحدَّ؟ وَايْمُ الله لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا (1).
فانظر لحكمه صلى الله عليه وسلم مع حلمه ورأفته، إلا أن هذا طالما أنه حد من حدود الله فلا شفاعة لأحد فيه.
وعن عروة قال: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنْ الحرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْماءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسْ الْماءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجْدْرِ ثُمَّ أَرْسِلْ الْماءَ إِلَى جَارِكَ، وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهما فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِه الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2).
قال النووي: فيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع، وإن كان المنتهك متأولًا تأويلًا باطلًا (3).
وفيه أن النبي لم يجامل هذا الأنصاري، بل لما أخطأ واتهم نبي الله بالظلم عاقبه.
* * *
(1) البخاري (3475 - 6788)، مسلم (1688).
(2)
البخاري (4585)، مسلم (2357).
(3)
شرح النووي (8/ 118).