الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي في كثرتها لا يحيط بها ضبط؛ فإن واحدًا منها: وهو القرآن، لا يحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى بسورة منه فعجز عنها.
قال أهل العلم: وأقصر السور {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات (1).
ثم معجزاته صلى الله عليه وسلم على قسمين: قسم منها علم قطعًا: ونقل إلينا متواترًا كالقرآن فلا مرية، ولا خلاف بمجئ النبي به، وظهوره من قبل، واستدلاله بحجته، وإن أنكر هذا معاند جاحد، فهو كإنكاره وجود محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وإنما جاء اعتراض الجاحط ين في الحجة به، فهو في نفسه وجميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة، ووجه إعجازه معلوم ضرورة ونظرًا.
والقسم الثاني: ما لم يبلغ مبلغ الضرورة والقطع، وهو على نوعين: نوع مشتهر منتشر رواه العدد وشاع الخبر به عند المحدثين، والرواة، ونقلة السير والأخبار؛ كنبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام، ونوع منه اختص به الواحد والاثنان، ورواه العدد اليسير ولم يشتهر اشتهار غيره؛ لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى، واجتمعا على الإتيان بالمعجز (2).
وإليكم بعض المعجزات التى كانت على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم
-:
أولًا: المعجزة الكبرى (القرآن الكريم)
.
أعطى الله عز وجل كل نبي من الأنبياء عليهم السلام معجزة خاصة به، لم يعطيها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه وأهل زمانه؛ فلما كان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، بعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العزيز الجبار، انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار.
وأما عيسى عليه السلام فبعثه الله في زمن الأطباء، وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد، أو على مداواة الأكمه والأبرص؟ وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بعث في
(1) الشفا للقاضي عياض (267).
(2)
الشفا للقاضي عياض (367).
زمان الفصحاء، والبلغاء، وتجاريد الشعراء، فأتاهم بكتاب من عند الله عز وجل، فاتهمه أكثرهم أنه اختلقه وافتراه من عنده فتحداهم، ودعاهم أن يعارضوه، ويأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك.
قال ابن كثير: عند قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به، إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله؛ فإنكم لا تستطيعون ذلك، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص:{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)} [القصص: 49] وقال في سورة سبحان: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13] وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة، فقال في هذه الآية:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني من مثل القرآن. قاله مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير والطبري، والزمخشري، والرازي ونقله عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنه، والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها: أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك، أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل من التحدي، وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئًا من العلوم، وبدليل قوله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وقوله: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}
وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أمي مثله، والصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له، وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ولن لنفي التأبيد في المستقبل: أي ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه أيضا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا مقدمًا غير خائف، ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا، هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} فأحكمت ألفاظه، وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى، ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية، كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} أي صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء، أو الخيل، أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس، أو ناقة، أو حرب، أو كائنة، أو مخافة، أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي، أو الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته. وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير؛ فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار
السلام، ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} وقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} ، وقال في الزجر:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} ، وقال في الوعظ:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف، حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا، ورغبت في الآخرة، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة". (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا" أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر، أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية؛ فإنها ليس معجزة عند
(1) البخاري (4981)، مسلم (152) واللفظ له.