الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والوطن، وهاجروا إلى المدينة عُزْلًا لا يملكون من قوت يومهم شيئًا، وذلك فرارًا بدينهم، وطلبًا لمكانٍ يعبدون فيه ربهم دون أن يتعرض لهم أحد، وقد قامت قريشٌ بالاستيلاء على جميع ممتلكات المهاجرين هؤلاء، واستباحت ديارهم وأموالهم، وليس أدلَّ على ذلك من تجريدهم لأموال صهيبٍ الرومي.
الوجه التاسع: الرد على استدلالهم بقول الله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآيات، وذلك من وجوه:
الأول: معنى الآيات
.
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} (الأنفال: 67).
قال الإمام الطبري: ما كان لنبيٍّ أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ. و (الأسر) في كلام العرب: الحبس، يقال منه:(مأسورٌ)، يراد به: محبوس. وإنما قال الله جل ثناؤه ذلك لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ثم فادى بهم، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.
وقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} ، يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها، ويقهرهم غلبة وقسرًا، يقال منه: أثخن فلان في هذا الأمر، إذا بالغ فيه. وحُكِيَ: أثخنته معرفةً، بمعنى: قتلته معرفةً. {تُرِيدُونَ} ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:{تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون، {عَرَضَ الدُّنْيَا} بأسركم المشركين، وهو ما عَرَض للمرء منها من مالٍ ومتاعٍ. يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض. يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، لا ما تدعوكم إليه
أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} ، يقول: إن أنتم أردتم الآخرة، لم يغلبْكم عدوٌّ لكم، لأن الله عزيزٌ لا يُقهرُ ولا يُغلَبُ وأنه {حَكِيمٌ} في تدبيره أمرَ خلقه. (1)
قال الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 68).
قال الطبري: يقول تعالى ذكره لأهل بدرٍ الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداءَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يقول: لولا قضاءٌ من الله سبق لكم أهلَ بدرٍ في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلُّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدرٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دينَ الله لنَالَكُمْ من الله بأخذكم الغنيمة والفداء، عذابٌ عظيمٌ. (2)
قال القاضي عياض: وأما قوله في أساري بدرٍ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} (الأنفال: 67 - 68) فليس فيه إلزام بذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خُصَّ به وفُضِّل من بين سائر الأنبياء، فكأنه قال: ما كان هذا لنبيٍّ غيرِك، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي". (3)
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ؟
قيل: المعنى بالخطاب لمن أراد ذلك منهم، وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا عِلْيَة أصحابه رضي الله عنهم بل قد رُوِيَ عن الضحاك: أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال، حتى خشي عمرُ أن يعطف عليهم العدو. ثم قال الله تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} فاختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل:
(1) تفسير الطبري 10/ 42.
(2)
تفسير الطبري 10/ 44.
(3)
البخاري (328، 427)، مسلم (521).
معناها: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم. فهذا ينفي أن يكون أمر الأسر معصيةً.
وقيل: المعنى لولا إيمانُكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم على الغنائم.
ويزاد هذا القول تفسيرًا وبيانًا بأن يقال: لولا إن كنتم بمؤمنين بالقرآن، وكنتم ممن أُحلت لهم الغنائم لعوقبتم كما عوقب من تعدَّى.
وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم. فهذا كله ينفي الذنب والمعصية؛ لأن من فعل ما أُحِلَ له لم يعص، قال الله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (الأنفال: 69).
وقيل: بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيِّر في ذلك، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه قال: جاء جبريل يوم بدرٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خَيِّر أصحابك من الأساري إن شاءوا في القتل، وإن شاءوا في الفداء على أن يُقْتَلَ عامًا مقبلًا مثلُهم منهم، فقالوا: الفداءُ ويقتلُ منا. (1)
وهذا دليلٌ على صحة ما قلناه، وأنهم لم يفعلوا إلا ما أُذِنَ لهم فيه، لكنَّ بعضَهم مالَ إلى أضعفِ الوجهين مما كان الأصلحُ غيرَه من الإثخانِ والقتلِ، فعوتبوا على ذلك، وبيَّن لهم ضعفَ اختيارِهم وتصويبَ اختيارِ غيرِهم، وكلهم غير عصاة ولا مذنبين. وإلى هذا أشار الطبري.
وقال الداوودي: والخبر بهذا لا يثبت، ولو ثبت لما جاز أن يُظَنَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بما لا نصَّ فيه ولا دليل من نصٍّ، ولا جُعِلَ الأمر فيه إليه، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك.
وقال القاضي بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان وصاحبه، فما عتب الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من عام.
(1) الترمذي (1567)، والنسائي في الكبرى (8662)، وصححه الألباني في المشكاة (3973).