الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثّاني أخذ الجعل على الجهاد
أوَّلًا: المرإد بالجعل
(1):
من خلال النظر في كلام العلماء حول الجعائل في باب الجهاد، يتبين أن الجعل يردّ عندهم على معنبين:
أحدهما: على معنى النفقة في سبيل الله، وعليه فتكون الجعالة هنا ليست على بابها من كونها عقد معاوضة.
والعنى الآخر: أن يكون بمعنى المعاوضة، فتكون على بابها، وسنفصل القول في المعنبين على النحو التالي:
* المعنى الأوّل: أن يكون على معنى النفقة في سبيل الله:
وهذا المعنى هو الّذي يُعرف عند الفقهاء بـ (الجهاد بالمال)(2)، وحكم هذا النوع من الجهاد كحكم الجهاد بالنفس، ولافرق، فقد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية. وهذا النوع قد جاء الشّرع بالترغيب فيه، والحض عليه، والوعد عليه بالثواب الجزيل في الآخرة، ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
(1) لقد سبق تعريف الجعالة، وبيان الفرق بينها وبين الإجارة، ولكن لما كان لهاهنا مفهوم آخر غير ما ذكر، ناسب ذكر ذلك المفهوم هنا، وبيان المراد بها؛ لأنّ ذلك ينبني عليه تحرير محل النزاع بين الفقهاء في هذه المسألةُ ببيان ما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه، ومن ثمّ تفصيل القول فيما اختلفوا فيه.
(2)
المبسوط للسرخسي: 1/ 19، قال السرخسي: "
…
والتجاعل ليس باستئجار، ولكنه إعانة على السير، وهو مندوب إليه، وجهاد بالمال
…
".
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]
2 -
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
3 -
قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
4 -
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن النّبيّ رضي الله عنه أنّه قال:(من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)(1).
وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على فضل الجهاد بالمال، وإعانة الغازي في سبيل الله.
قال الإمام ابن قيم الجوزية مبينًا هذا النوع عند حديثه عن فقه وفوائد غزوة تبوك: "ومنها: وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهي الصواب الّذي لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن، وقرينه، بل جاء مقدمًا على الجهاد بالنفس في كلّ موضع، إِلَّا موضعًا واحدًا، وهذا يدلُّ على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس، ولا ريب أنّه أحد الجهادين، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:(من جهز غازيًا فقد غزا)، فيجب على القادر عليه، كما يجب على القادر بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إِلَّا ببذله، ولا ينتصر إِلَّا بالعدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه، أن يمد بالمال والعدة .... (2).
(1) سبق تخريجه. راجع ص 182.
(2)
زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم: 3/ 588، 559.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "ومن عجز عن الجهاد ببدنه، وقدر على الجهاد بماله، وجب عليه الجهاد بماله، هو نصّ أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الّذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله .... "(1).
فإذا قصر الأغنياء، والقادرون في النفقة في سبيل الله، أو كان ما ينفقونه لا يسد حاجة الجند من النفقة والعتاد، فهل للإمام أن يفرض على القادرين من الرعية من المال ما يسد به حاجة المجاهدين من نفقة، وسلاح، وغير ذلك؟
لا خلاف بين المذاهب في جواز ذلك للإمام، ولكن بشرط خلو بيت المال من الأموال الّتي تكفي حاجة الجند (2).
قال محمّد بن الحسن: "لو أراد الإمام أن يجوز جيشًا، فإن كان في بيت المال سعة، فينبغي له أن يجهزهم بمال بيت المال، ولايأخذ من النَّاس شيئًا، وإن لم يكن في بيت المال سعة كان له أن يتحكم على النَّاس بما يتقوى به الذين يخرجون للجهاد"(3).
وقال الشاطبي: "إنا إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسدّ الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما
(1) الاختيارات الفقهية لابن تيمية: ص / 308
وقد بين شيخ الإسلام أن الخلاف في وجوب الجهاد بالمال إنّما هو عندما يكون الجهاد فرض كفاية، فأمّا إذا تعين، فيجب إجماعًا، قال رحمه الله: "
…
وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية، فإذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدِّين، والنفس، والحرمة واجب إجماعًا". (الاختيارات: ص/308).
(2)
المبسوط للسرخسي: 10/ 20، شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 284، الاعتصام للشاطبي: 2/ 916، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 7/ 67، 68، وقد نقل ذلك عن العز بن عبد السلام.
(3)
السير الكبير مع شرحه للسرخسي: 1/ 139.
لا يكفيهم فللإمام - إذا كان عدلًا - أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر بيت المال" (1).
هذه بعض نقول أهل العلم في هذه المسألة، وهناك نقول أخرى عن بقية المذاهب، ممّا يؤكد سلطة الإمام في التصرف على الرعية بما يحقق المصلحة عملًا بالقاعدة الشرعية:"تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"(2).
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أنّه يجب على القادرين في هذه الحالة تجميع المال اللازم؛ لدفع العدو، قال: إنَّ المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدو وجب على القادرين الاشتراك في ذلك" (3).
بناء على ما سبق، فقد عرّف الحنفية الجعل؛ فقالوا في تعريفه:
"هو أن يكلف الإمام النَّاس بأن يقوي بعضهم بعضًا بالسلاح، والكراع، وغير ذلك من النفقة، والزاد"(4).
وفي تعريف آخر:
"هو ما يضربه الإمام للغزاة على النَّاس بما يحصل به التقوي للخروج إلى الحرب"(5).
وهذا النوع من الجعل لاحرج على المجاهدين في أخذه، بل قد يجب عليه الأخذ إذا كان هذا هو سبيله للتقوي على الجهاد في سبيل الله، ودفع العدو، والذَّبّ عن
(1) الاعتصام للشاطبي: 2/ 619، تحقيق سليم الهلالي.
(2)
الأشباه والنظاثر للسيوطي، ص/233، شرح القواعد الفقهية للزرقاء، ص/247.
(3)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 342.
(4)
شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 283، 284.
(5)
حاشية الشلبي على تببين الحقائق: 3/ 242.