الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وذكر ما استدل به أصحاب كلّ قول، وما ورد على هذه الأدلة من مناقشات وما أجيب به عنها يتبين بوضوح رجحان القول الأوّل وهو جواز أخذ الرزق على القضاء من بيت المال وإن كان القاضي غنيا، وذلك لما يأتي:
1 -
قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، حيث جاءت أدلتهم في معظمها صريحة في الدلالة على المطلوب، ومن ذلك حديث ابن السعدي حيث جاء نصا صريحًا في جواز الأخذ مع الغنى، بل في استحباب ذلك.
2 -
أن هذه السنن الصحيحة الصريحة جاءت مؤيدة بفعل أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث اتخذوا القضاة وارزقوهم من بيت المال ووسعوا عليهم في ذلك كما تقدّم.
3 -
أن أخذ الرزق مع الغنى أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، قال ابن حجر مبينا ذلك:"أن الأخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك؛ لأنّه إنَّ لم يأخذ كان عند نفسه متطوعًا بالعمل فقد لا يجدُّ جدّ من أخذ ركونًا إلى أنّه غير ملتزم بخلاف الّذي يأخذ فإنّه يكون مستشعرًا بأن العمل واجب عليه، فيجدّ جدّه فيها"(1).
4 -
أن بعض العلماء نقل الإجماع على جواز الرزق على القضاء مطلقًا دون تفريق بين غنى وفقير ومن ذلك:
1 -
قال أبو علي الكرابيسي (2): "لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصّحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار، لا أعلم
(1) فتح الباري لابن حجر 13/ 165.
(2)
هو: الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الكرابيسي، أبو علي أحد أصحاب الإمام الشّافعيّ رحمه الله تعالى، كان متضلعا في الفقه والحديث والأصول، سمي بالكرابيسي؛ لأنّه كان يبيع الكرابيس وهي الثِّياب الخام، هجره الإمام أحمد رحمه الله لتكلمه في مسألة اللقط، توفي سنة 245 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: طبقات الشّافعيّة لابن كثير 1/ 132، طبقات الشّافعيّة لابن هداية الله ص:26.
بينهم اختلافًا" (1).
2 -
نقل الحافظ ابن حجر الإجماع عن بعض العلماء فقال: "وقال غيره: أخذ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعًا، ومن تركه إنّما تركه تورعًا"(2).
3 -
قال القرافي: "القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعًا"(3).
5 -
أن أدلة القول الآخر جاءت كلها أدلة عقلية، وقد أمكن مناقشتها جميعًا بما يضعف من دلالتها، وعلى فرض التسليم بعد مناقشتها فإنها لا تنهض لمعارضة الأدلة النصية من السُّنَّة والأثر الّتي استدل بها أصحاب القول الأوّل. وعلى هذا فإنّه ينبغي للإمام أن يعطي القاضي كفايته وكفاية من يعول من بيت المال، ويوسع عليه في ذلك، ويكفيه همّ دنياه ممّا يجعله مرتاح البال خالي الذهن، ومن نظر في الصفات المطلوية في القاضي، وما يجب أن يكون عليه حال القضاء بين النَّاس أيقن بصحة هذا القول. والله تعالى أعلم.
(1) فتح الباري لابن حجر 13/ 161.
(2)
المصدر السابق.
(3)
الفروق للقرافي 3/ 3. قلتُ: وهذا الإطلاق في إجماع القرافي جاء مقيدًا في الذّخيرة 10/ 78 - 79 قال: "من تعين عليه القضاء وعنده كفايته وكفاية من تلزمه كفايته لم يجز أن يأخذ عليه رزقًا؛ لأنّه فرض تعين عليه، وإن لم تكن له كفاية جاز له الرزق من بيت المال".