الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتِحَة القَول
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وصلوات الله وتسليمه على نبيه الأمين، الذي حمل وحيه، وأدّاه إلينا كاملاً، مبيناً، لا عوج فيه، فعلمنا به من الجهالة، وهدانا به من الضلالة، وجمعنا به بعد الفرقة، وجعل لنا في الدنيا والآخرة مكاناً لا تنكره الأمم.
وبعد، فإن نهر الشريعة الخالد ينبع أوّلاً من كتاب الله العظيم وحي الله المبارك، وكلمته إلى العالمين. ويستمد هذا النهر بعدُ من سنن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
منذ أن اختار اللُه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة، استشعر عظم المهمة التي ألقيت على عاتقه لهداية البشر، وتخوّف ثقل القول الذي كلّف به. لقد أهمّه أمر الجموع الزائغة من البشر، في الجزيرة وخارجها، من يهديها؟ وتلك الأجيال المتلاحقة عبر الزمان إلى أن تقوم الساعة، من يعلمها أحكام الله!
حتى وردت الطمأنينة له من السماء: {ما ودّعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى} الله معك، أما أنت فاستقم كما أمرت، ولا تحد عنه. لا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل، وحدّث الناس بما جاءك من الوحي، واعبد الله واتّقِه حق تقاته. فهذا الذي عليك. ولست عليهم بمسيطر.
إذن الأمر هيّن: تبليغ واستقامة، بيان بالقول، وضرب مثل بالفعل. أما الهداية والإضلال فهما بيد الله وحده.
فشرح الله صدره للأمر، ووضع عنه وزره الذي أنقض ظهره، ويسر له ما كان عليه عسيراً.
ولكن هل كانت المهمة يسيرة حقاً؟ لقد كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يقوم الليل إلا قليلاً، يتدبّر تلك الكلمات الإلهية، ويقوّم بقيلها فكره وقلبه، حتى إذا أصبح، بلّغها قومه، واستقام عليها ليُقْتَدَى به، ونفّذ ما علّمه الله، ليكون شاهداً عليهم، كما أرسل اللُه إلى فرعون رسولاً، فعصاه فأخذه الله أخذاً وبيلاً. فالأمر جدّ، وليس عبثاً.
لقد حرصت الأمة على تدوين ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله، وحفظ الله الذّكر بتلك الجهود المضنية التي بذلتها الأمّة، في شتّى ميادين العلم، والتي تكاد تماثل ما بذلته من الجهود في الجهاد والتبليغ. فكان في كلا النوعين من الجهاد، رفع ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر قومه في العالمين.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر أكثر من أقواله أضعافاً مضاعفة.
وهذا ملاحظ في سائر البشر. فقلّما ينفكّ البشر عن فعل. ولكنه لا يتكلم إلاّ إذا بدا له ذلك.
والتقرير أكثر من ذلك كله، فإن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال الصحابة وتروكهم، وما رآه في بيئته من الأمور فلم يغيره، لا يحصى، والذي أنكره من ذلك قليل جداً.
لكن ما نقل إلينا في دواوين السنة من الأفعال والتقارير، أقلّ من الأقوال أو يساويه. وقد جمع السيوطي عامة السنن المروية في جامعه الكبير، فكانت الروايات الفعلية مساوياً تقريباً للروايات القولية.
ومع ذلك، فهل خدَمَ الأصوليون الأفعال التي نقلت كما خدموا الأقوال؟
إن كتب الأصول الشاملة تعرضت للأقوال، من جميع جوانبها تقريباً. فبحثت في الأمر والنهي، والعموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، وغيرها.
بل تعرضوا لألفاظٍ معينة ودلالتها، فتكلموا في من وإلى وعن وعلى وأمثالها.
وهناك المباحث التي تدخل فيها الأفعال مع الأقوال، كالحكم، والنسخ، والبيان والإجمال، وما سواها، كادت هذه المباحث أن تكون في كلام الأصوليين مقصورة على الأقوال، ولا يذكر الفعل فيها إلاّ لِماماً، كأنه ضيف زائر، أو حبيب معاتَب.
وكتب الباحثون المتخصصون قديماً وحديثاً في مباحث الأقوال، وأفردوا أكثرها بمؤلفات متخصصة. فكتبوا في الأمر والنهي، وفي الحقيقة والمجاز، وفي تفسير النصوص المجملة. وكتبوا في العموم والخصوص وغير ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك كانت الدراسات اللغوية في النحو والبيان والمعاني تقوم بخدمة الأقوال، وبيان أدقّ الفروق في دلالاتها.
لقد حرمت الأفعال النبوية إلاّ من مجهودات ضئيلة، لقد مسّها الأصوليون مسّاً سريعاً في مؤلفاتهم الأصولية الشاملة.
فهل ذلك هو الوزن الحقيقيّ للأفعال؟ هل أعطيت الأفعال (كامل حقوقها وما ينبغي لها؟) إن استقراء مواقع الخلاف بين الفقهاء يظهر بجلاء، أن من أسباب الخلاف بينهم اختلافهم في الأحكام المستفادة من الأفعال، بل لعلّي لا أكون مبالِغاً إذا قلت: إنّ الخلاف في قواعد الأفعال هذه هو السبب الأكبر في الخلاف الفقهي.
ولم نجد، بعد طول البحث، أحداً خصّ الأفعال بمؤلّف خاص، ما عدا اثنين من فضلاء المتأخرين، أحدهما الشيخ أبو شامة المقدسي، من رجال القرن السابع. ورسالته في ستين ورقة تقريباً. والآخر من رجال القرن الثامن وهو الحافظ العلائيّ، ورسالته في نحو ثلاثين ورقة.
لم يُغَطِّ المؤلفان المذكورات جميع نواحي مباحث الأفعال، وكان بحثهما في المواضع التي طرقاها قاصراً من جهات.
لقد كان ذلك كله حافزاً لاختيار الأفعال النبوية موضوعاً لدراسة أصولية، أخدم بها السنة المطهرة.
وقد سرت في عملي بحماس شديد شاعراً بعظم المهمة، ناظراً إلى الفراغ الكبير الذي ينتظر السداد.
لقد كان السير في الطريق الممهّدة سيراً رفيقاً. أما الفراغ الذي لم يطرق من قبل فقد كان السير فيه عسيراً مضلِّلاً، لولا عون الله وتسديده وتوفيقه.
وحرصاً على الطريق الممهّدة، لم أشأ أن أبدأ السير قبل أن أطّلع على كتابات شاملة في الأفعال، فحرصت كل الحرص على الحصول على رسالتي الحافظ العلائي وأبي شامة.
أما الأولى فقد حصلت عليها بيسر، إذ وجدتها هنا بالقاهرة.
وأما الأخرى، فقد طال البحث عنها في مكتبات العالم العربي فلم توجد فيه. ثم يسّر الله الكريم العثور عليها صدفة في إحدى المكتبات النائية في أوروبا، ولعلها النسخة الوحيدة في العالم من المؤلف المذكور. فحصّلت صورتها بعد عناء شديد.
إلاّ أنه قد تبيّن أن كلاً من الرسالتين المذكورتين عجالة، تغني من جوع ولكنها لا تُسمِن، وتنقع الغلة دون أن تعطي الريّ أو تشفي الصدر.
واستعنت بالله.
ورأيت أن من الأفعال ما ليس في فعليّته خفاء، كالصلاة والصوم والجهاد والركوع والسجود والأكل والشرب والنوم.
وأنّ من الأفعال ما اختلف في أنه فعل أو ليس بفعل كالترك والكتابة والإشارة والسكوت والإقرار.
فخصصت النوع الأول بباب وسمّيته باب الأفعال الصريحة.
وخصصت النوع الثاني بباب وسمّيته باب الأفعال غير الصريحة.
وجعلت للتعارض بين الأفعال وما سواها من الدلائل باباً ثالثاً.
وقد مهّدت للرسالة بتعريف السنة لغة واصطلاحاً. وبيان حجية السنة إجمالاً ومنزلتها من القرآن. وفي تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل.
وأما الباب الأول وهو باب الأفعال الصريحة فقد انتظم في تسعة فصول:
الفصل الأول تعرضت فيه للبيان بالأفعال في حالة انفرادها أو اجتماعها مختلفة أو متفقة. وفي حال اجتماعها مع الأقوال.
والفصل الثاني تعرضت فيه لأحكام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم. فأوضحت أن فعله قد يصدر عن النصوص القرآنية، أو عن اجتهاد، أو تفويض، وأنه قد يصدر على أساس مرتبة العفو، أي عدم الحكم.
وبينت في الفصل الثاني أن الأفعال التي تصدر عنه صلى الله عليه وسلم، إما أن تكون من قبيل الواجبات، أو المندوبات، أو المباحات، وتعرضت للعصمة عن المكروهات والمحرمات.
وذكرت الطرق التي يتعيّن بها حكم فعله صلى الله عليه وسلم. فحصرت ذلك، وناقشت النظريات التي أُورِدَت في أماكن شتى من كلام الأصوليين حول ذلك.
وفي الفصل الثالث بيّنت أن الأفعال النبوية من حيث الجملة حجّة شرعية. وناقشت المخالفين في ذلك. وأوردت الأدلة المقنعة.
وفي الفصل الرابع قسّمت الأفعال النبوية الصريحة عشرة أقسام: الفعل الجبِلّيّ. والعاديّ. والدنيويّ. والخصائص. والمعجزات. والفعل البيانيّ. والامتثاليّ. والمتعدّي. والمفعول لانتظار الوحي. ثم الفعل المجرّد.
وخصصت كل واحد منها بمبحث خاص أوضحت ما يستدل به منها وما لا يستدل به، وكيفية ذلك.
غير أني خصصت الفعل المجرّد بفصل خاص هو الفصل الخامس، لمَّا أنه لبُّ باب الأفعال، وهو الذي يقع فيه الخلاف.
وفي الفصل السادس تحدثت عن الأحكام التي يصح استفادتها من الأفعال، ومن أين يؤخذ كل منها، سواء الأفعال التكليفية والوضعية.
وفي الفصل السابع تحدثت عن صفة الدلالة الفعليّة، وطبيعتها، وهل تنتمي إلى الدلالة المطابقيّة أو التضمنيّة أو الالتزامية. وذكرت أن الفعل قد يدل بالمفهوم. وبيّنت كيفية انسحاب حكم الفعل النبويّ على أفعال الأمة.
وتعرضت في الفصل الثامن لدلالة متعلّقات الفعل النبوي. فذكرت دلالة سبب الفعل، وفاعله، ومفعوله، ومكانه، وزمانه، وهيئته، وما يقارنه، وأدواته المادّية، وعدد الفعل ومقداره.
وفي الفصل التاسع ذكرت مباحث متنوّعة تتعلق بالأفعال، فعقدت مبحثاً بيّنْتُ فيه للمجتهد الطريق العمليَّ الذي يسلكه لاستفادة الحكم من الفعل النبويّ؛
ومبحثاً آخر للاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالأفعال، وكيف الجواب عنها.
ومبحثاً ثالثاً لنقل الفعل النبوي، وما قد يقع من الخلل في أدوات النقل وعباراته، وما يحصل من الأوهام بسبب ذلك، ليحصل التنبه لها، والحذر من الوقوع فيها.
أما الباب الثاني: فقد عقدته للأفعال غير الصريحة وهي الكتابة والإشارة والأوجه الفعلية للقول، والترك، والسكوت، والتقرير، والهم بالفعل. وعقدت لكل منها فصلاً. ثم عقدت فصلًا لأمور تلحق بالأفعال النبوية.
أما الباب الثالث: فقد عقدته للتعارض بين الأفعال النبوية بعضها ببعض، والتعارض بينها وبين الأدلة الأخرى. وانتظم عندي في أربعة فصول. وألحقت به قطعة من رسالة الحافظ العلائيّ المسمّاة (تفصيل الإجمال في تعارض
الأقوال والأفعال) رأيت من الضروري أن تكون بين يدَيْ من يطّلع على هذا البحث.
وقد كان مما أخذته على نفسي في هذا البحث أن أزن الأمور بما تستحقه، فلا أستقلّ قولاً للجهالة بقائله، أو لأنه نُبِزَ بوصف غير لائق، ولا أغترّ بقول نسب إلى الجمهور أو الكثير، أو إلى فلان أو فلان من المشهورين.
وقد أوردت من الفروع الفقهية أمثلة تتّضح بها القواعد، ويبين بها المراد. وأخذت على نفسي ألاّ أستطرد وراء تلك الفروع نقاشاً واستدلالاً إلاّ بمقدار ما تتضح به القاعدة الأصولية ويبين به المراد منها. والذي يريد دراسة الفرع الفقهيّ ينبغي أن يأخذه من مظانّه من كتب الفقه.
وخرّجت ما ورد في هذه الرسالة من الآيات والأحاديث. وترجمت للأعلام المستغربة نوعاً ما، وتركت الترجمة للمشهورين اكتفاء بشهرتهم.
ولست أدّعي العصمة، ولا أزعم الإحاطة. وإنما أدّعي وأزعم أنني بذلت جهداً في جمع شمل نواحي هذا الموضوع الهام، وأنني حللت جزءاً من تلك المشكلات، وسلطت الأضواء على مواضع الإشكال الأخرى.
وليس ذلك بحولي ولا بقوّتي، وإنما بفضل الله وعونه وتيسيره لكل صعب، لمست ذلك عندما رأيت تفتّح المقفلات، وتيسير الشدائد، وتسهيل كل عسير.
وأتقدم بالشكر إلى أستاذي فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق، الذي كان لتشجيعه وتوجيهه أثره الكبير في خروج هذه الرسالة على هذا الوضع، ولكل من أسدى في ذلك يداً.
"والحمد لله أولاً وآخراً"
القاهرة - مدينة نصر
يوم الخميس 17 من رجب الحرام 1396 هـ
15 من يوليو 1976 م