الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث الفعل في الأمور الدّنيوية
نعني بالأمور الدنيوية ما فعله صلى الله عليه وسلم بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال، له أو لغيره، أو دفع ضرر كذلك، أو دبّر تدبيراً في شأنه خاصّة أو شؤون المسلمين عامة، لغرض التوصل إلى جلب نفع أو دفع ضرر.
ويشمل هذا النوع من الأفعال الأضرب التالية:
الضرب الأول: الأفعال الطبيّة، وهي ما يجريه على بدنه خاصة، أو أبدان غيره من الناس بقصد دفع مرضٍ حاضر أو متوقّع.
فقد تناول النبي صلى الله عليه وسلم، أو أعطى غيره، أطعمه وأشربة متنوعة على سبيل حفظ الصّحّة، أو لدرء أمراض معينة، كألبان الإبل وأبوالها (1).
وكذلك تعاطى وأعطى أنواعاً مختلفة من العلاج، فقد احتجم واستَعَط (2)، وكانت حجامته في وسط رأسه (3). وكانت حجامته من شقيقة كانت به (4).
ولما اشتدّ به وجعه أهريق عليه من سبع قرب لم تحلل أوكِيَتُهُنّ (5). ولما جُرح بأحُد، أُلصق على جرحه رماد حصير ليرقأ الدم (6). وداوى بريقه مع تراب (7).
(1) البخاري 10/ 178
(2)
البخاري 10/ 147
(3)
البخاري 10/ 152
(4)
البخاري 10/ 153
(5)
البخاري 10/ 167
(6)
البخاري 10/ 174
(7)
البخاري 10/ 308
ورفض أدويةً معيّنة كاللدود (1).
الضرب الثاني: الأفعال في الزراعة، بأن يزرع أنواعاً معينة من النبات، أو يزرع بطريقة ما، أو يسقي المزروعات كذلك، أو يفعل بالنبات شيئاً بقصد تكثير إنتاجه أو تحسينه أو نحو ذلك.
وشبيه بها ما يُفعل بالحيوان بقصد تكثير إنتاجه وتحسينه، كإطعامه أعلافاً معينة، أو المزاوجة بين سلالات منه مختلفة بقصد الحصول على نسل أجود.
الضرب الثالث: الصناعة، بأن يصنع بمادّة شيئاً ما بقصد تحويلها إلى شكل ذي أوصاف مخالفة لشكلها الأول، لتكون أنفع، أو يحلّل مادة ما إلى حالات أبسط، أو يركِّب مادة مع مادة بقصد الحصول منهما على مادة جديدة، هي أنفع من الأصل.
الضرب الرابع: التجارة، بأن يعمل ف البيع والشراء، في أشياء معينة، في ظروف معينة، بقصد تحصيل مكسب عن فروق الأسعار.
الضرب الخامس: أنواع أخرى من المكاسب كرعي الغنم، أو العمل للغير بأجر.
الضرب السادس: التدابير التي اتخذها صلى الله عليه وسلم في الحرب من استعمال المجانيق والسيوف والرماح والسهام، وتربية الخيل للقتال، وحفر الخنادق، وترتيب الجيوش وتدريبها.
الضرب السابع: التدابير التي اتخذها صلى الله عليه وسلم في الإدارة المدنية، من اتخاذ الولاة والكتاب والحراس والحجّاب والسفراء، وكذلك الأعلام والشعارات، والمرافق من الطرق والحصون وغيرها (2).
(1) حديث اللدود: البخاري 10/ 166 واللدود ما سقي من الدواء بالمسعط في الفم (اللسان).
(2)
انظر الكتاب القيم في تفاصيل ذلك: التراتيب الإدارية لمؤلفه عبد الحي الكتاني. نشرته ببيروت، دار إحياء التراث العربي، صورة بالأوفست.
فهذه الأضراب وأمثالها قد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من أفرادها ونقل إلينا أشياء من ذلك.
والنظر في الأحكام التي يمكن أن تدل عليها مثل تلك الأفعال من وجهين:
الوجه الأول: أصل الطب والزراعة والصناعة والتجارة والقصد إلى تحصيل المكاسب، والسعي لتحقيق التدابير المدنية والعسكرية المناسبة، ونحو ذلك، يستفاد من فعله صلى الله عليه وسلم في ذلك إباحته، وأنه لا يخالف العقيدة ولا الشريعة. وقد يترقّى، إلى درجة الاستحباب أو الوجوب، بحسب الأحوال الداعية إليه.
وفي الحديث القولي إشارة إلى ذلك حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"(1).
ومن قال في الأمور الجبلية التي فعلها صلى الله عليه وسلم إنه يستحب لنا التأسيّ بها، فكذلك يقول هنا، ومن ادّعى الوجوب فكذلك. إلاّ أن القول بأن الأصل فيها الإباحة أصوب، كما تقدم في أفعال الجِبِلّة الاختيارية.
الوجه الثاني: الأمر الذي عمله بخصوصه، هو مباح له، وقد يكون مستحباً له، أو واجباً عليه، لاعتقاده صلى الله عليه وسلم أنه هو المؤدي إلى غرض مستحب أو واجب. ولكن هل يكون حكم مثله بالنسبة إلينا كذلك، كما لو شرب دواءً معيناً لعلاج مرض معين، فهل يستحب لنا شرب ذلك الدواء لذلك المرض مثلاً، أو يجب، بل هل يباح بناء على ذلك أم لا؟.
هذا ينبني على أصل، وهو أن اعتقاداته أو ظنونه صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية هل يلزم أن تكون مطابقة للواقع، بمقتضى نبوته، أو أن هذا أمر لا صلة له بالنبوّة؟.
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه صلى الله عليه وسلم معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا. بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع.
(1) رواه البخاري 4/ 303
ولم نجد أحداً من قدماء الأصوليين، صرّح بمثل هذا المذهب.
ولكنه لازم لمن جعل جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم حجة حتى في الطبيات والزراعة ونحوها. وهو لازم أيضاً لمن صحح منهم أن تقريره صلى الله عليه وسلم لمخبر عن أمر دنيويّ يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيّده المحلي والبناني (1).
والذين عند حصرهم أقسام الأفعال النبوية، لم يذكروا الفعل النبوي في الأمور الدنيوية، كقسم من أفعاله لا دلالة فيه، يظهر أنهم يقولون بهذا القول، إذ يلزمهم أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم في الطب مثلاً دليلاً شرعياً. من هؤلاء مثلاً أبو شامة، والسبكي، وابن الهمام، وغيرهم.
وابن القيم في كتابه (الطب النبويّ)(2) يذهب إلى حُجيّة أفعاله صلى الله عليه وسلم في الطب، فيلزمه القول بهذا المذهب.
ويظهر أن هذه طريقة المحدّثين، فإنا نجد عند البخاريّ مثلاً هذه الأبواب، ولم يذكر فيها من الأحاديث إلا أحاديث فعليّة:(باب السعوط)(باب أي ساعة يحتجم)(باب الحجامة في السفر)(باب الحجامة على الرأس)(باب الحجامة من الشقيقة والصداع)(3) وعند غيره من المحدثين، كأصحاب السنن، تبويبات مشابهة. ويوافقهم الشراح غالباً على ذلك، فيذكرون استحباب أدوية معيّنة لأمراض معيّنة، بناء على ما ورد في ذلك من الأفعال النبويّة.
المذهب الثاني: أنه لا يلزم أن يكون اعتقاده في أمور الدنيا مطابقاً للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلاً أو كثيراً. بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وليس في ذلك حطٌّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به، لأن منصب النبوّة منصبٌّ على العلم بالأمور الدينية، من الاعتقاد في الله وملائكته
(1) انظر جمع الجوامع شرحه وحاشيته 2/ 127، 128 وأيضاً 2/ 95
(2)
هو بعض كتابه المشهور (زاد المعاد في هدي خير العباد) وقد طبع أيضاً مفرداً.
(3)
صحيح البخاري 10/ 145 - 152
وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إذا اعتقد أن فلاناً مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معيّناً يشفي من مرض معيّن، فإذا هو لا يشفى منه، أو أن تدبيراً زراعياً أو تجارياً أو صناعياً يؤدي إلى هدف معيّن، فإذا هو لا يؤدّي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أن تدبيراً عسكرياً أو إدارياً سينتج مصلحة معيّنة، أو يدفع ضرراً معيّناً، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثّراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدّى إلى نتائج معيّنة، فكل ذلك يؤدّي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظنّ أو اعتقد.
وقد صرّح بأصل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عيّاض (1) والقاضي عبد الجبار الهمداني المعزلي (2) والشيخ محمد أبو زهرة (3). وظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزرعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها. إلا أن القاضي عيّاضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً لا كثيراً يؤذن بالبله والغفلة (4).
ويُحتَجّ لهذا المذهب بأدلة، منها:
أولاً: حديث تأبير النخل. ففي صحيح مسلم عن رافع بن خديج، أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فإذا هم يأبرون النخل. فقال:"ما تصنعون؟ " قالوا: كنا نصنعه. قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه. فنفضت. فذكروا ذلك له، فقال:"إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".
(1) الشفاء 2/ 178
(2)
المغني 17/ 256 حيث جعل من شرط الاقتداء بالفعل "أن يكون مما له مدخل في الشرع ولا يكون مما يفعل للمنافع والمضار".
(3)
كتابه: تاريخ المذاهب الفقهية ص 10
(4)
الشفاء 2/ 180
وفي رواية طلحة، قال صلى الله عليه وسلم:"ما أظن ذلك يغني شيئاً". فأخبِروا بذلك، فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:"إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنّي إنما ظننت ظنّاً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية أنس: "أنتم أعلم بدنياكم"(1).
وشبيه به حديث ابن عباس في قصة الخرص (2)، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فما حدّثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر".
وقد رُدّ الاستدلال بهذا الحديث، بأن المراد: أنتم أعلم بدنياكم من أمر دينكم (3). ويكون توبيخاً لهم.
وسياق الأحاديث على اختلاف رواياته يأبى هذا التأويل ويبطله.
ثانياً: حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"(4).
وفي وراية الزهري للحديث المذكور: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم. فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسِبُ أنه صادق، فأقضي له بذلك"(5).
إذا ثبت الأصل الذي ذكرناه آنفاً، فإنه ينبني عليه أن ما فعله صلى الله عليه وسلم من أمور الدينا مما مرجعه إلى تجاربه الخاصة، وخبرته الشخصية، وتفكيره وتقديره في الأمور الدنيوية التي وضحناها، لا يدل على مشروعية ذلك الفعل بالنسبة إلى الأمة.
(1) راجع لروايات هذا الحديث: صحيح مسلم 4/ 1835 ومسند أحمد 3/ 152
(2)
ذكره القاضي عياض: الشفاء 2/ 178 ولم يعزه.
(3)
البناني: حاشيته على شرح جمع الجوامع 2/ 128 وأيضاً: علي القاري: شرح الشفا.
(4)
البخاري 13/ 157 وأصله عند مسلم وأبي داود.
(5)
البخاري 13/ 172