الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقرر ابن تيمية أصلاً آخر، وهو أن الأصل في العبادة بعد مجيء الشرع المنع حتى يرد دليل شرعيتها، وجواز الشيء على سبيل العادة لا يعني أنه يجوز على سبيل العبادة. وأما العاديّات من العقود وغيرها فالأصل بها عدم المنع ما لم يرد دليل المنع. قرّر ذلك في مواضع من كتبه ونسبه إلى فقهاء الحديث أحمد وغيره (1).
الإباحة المستفادة من الفعل النبوي:
إن الإباحة التي يدل عليها الفعل النبوي. إن كان بياناً أو امتثالاً لدالٍّ عليها، فهي إباحة شرعية. وأما ما فعله من المباحات الجبلية والعادية، وما حكمنا بإباحته من الأفعال المجردة، فإن إباحته عقلية، أو -كما قرر الغزالي- لا حكم فيه من جهة الشرع، وذلك أن غاية ما في الفعل الدلالة على أن ليس في الشرع ما يدل على المنع منه.
فائدة استفادة الإباحة من الأفعال النبوية المجردة:
قد يقال: إن الإباحة هي الأصل في المعاملات والأمور الجبلية والدنيوية والعادية ونحوها. فما فائدة الفعل النبويّ في ذلك المجال؟.
فالجواب أن فائدته من جهات:
الأولى: أن الإباحة المستفادة من الفعل أقوى من المستفادة من العمومات الواسعة، فأكله صلى الله عليه وسلم من لحم العنبر الميت أدل على إباحته من عموم الآية {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} بل ومن عموم الآية:{أحلَّ لكم صيد البحر وطعامه} وهي، من باب أولى، أقوى في الدلالة على إباحة الفعل المعيّن من الإباحة العقلية، التي يقول بها المعتزلة.
الثانية: نفي احتمال أن تكون الصورة مشمولة بنص مانع أو قياس مانع،
(1) شفاء الغليل ص 633
القاهرة 2/ 326 ابن القيم: إعلام الموقعين 2/ 326
كما في قصة أكله صلى الله عليه وسلم من لحم العنبر الميت. وقصة أكله صلى الله عليه وسلم من لحم شاة تصُدّق به
على بريرة فأهدت إليه منها.
ومثل تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه في المسجد بعد الصلاة، كما في حديث ذي اليدين، يدل على إباحته وعدم القياس على ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم القادم إلى المسجد عن التشبيك (1).
ومثل خروجه من المسجد دون تيمم، عندما تذكر أنه جنب، وقد أوجب بعض الفقهاء التيمّم في مثل هذه الحال (2). ومثل إخراجه صلى الله عليه وسلم رأسه إلى عائشة لترجّله وهي حائض وهو معتكف في المسجد. فقد تبين به أنواع من المباحات.
ومن هنا كثر نقل الصحابة للأفعال التي من هذا النوع لبيان الإباحة حيث يُظَنّ المنع، كما في أحاديث مسح الخفين، كثر نقلها لما في الآية من الأمر بالغسل، بل كثيراً ما كان ظن التحريم لأمر من الأمور من بعض الناس، حافزاً للصحابة على رواية الأفعال لإثبات الإباحة. وبهذا السبب ظهر جزء كبير من السنن.
الثالثة: إثبات الجواز في ما الأصل فيه المنع. وهي قاعدة مهمة جداً في باب العبادات، فإن الأصل فيها المنع كما تقدم، فلا يعبد الله إلا بما شرع، وحيث فعل صلى الله عليه وسلم العبادة الخاصة علم أنها جائزة من أصلها، ولو فعل العبادة في حال معينة أفاد جواز فعلها في تلك الحال، كالصلاة على الميت الغائب، وفعل صلاة الفرض على الراحلة عند المطر إذا كانت الأرض مبتلّة، وفعل النافلة على الراحلة، وأنه يتجه حيثما توجهت ركابه.
(1) انظر فتح الباري 1/ 566
(2)
ابن حجر: فتح الباري 1/ 383