الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبلّغونه عن الله تعالى ثابتة باتفاق الأمة" (1). وقال في موضع آخر: "النبي معصوم في ما يبلغه عن الله تعالى، فلا يستقرّ خطأ في المبلغ" وأما فيما يتعلق بالذنوب فليسوا عنده معصومين عن صدورها منهم، ولكن هم معصومون من الإقرار على الذنب، بل يُنَبِّهون أو يتوبون (2) وظاهر قوله هذا أنه يجيز صدور الذنب منهم كبيراً كان أو صغيراً عمداً وسهواً. فلا عصمة عنده للنبي عن صدور الذنب والمخالفةِ منه، وإنما العصمة عن استمراره على الذنب دون توبة، وعن استقرار ما يؤديه من الشريعة على الخطأ.
6 -
وأما الظاهريّة، فإن ابن حزم ترك ظاهريّته هنا، وقال بعصمة الأنبياء بعد النبوة عن كل ذنب صغير أو كبير عمداً، ولم يمنع أن يصدر عنه صلى الله عليه وسلم ذلك سهواً عن غير قصد. والتزم أنهم لا يُقرُّون على ذلك، بل ينبههم الله تعالى عليه ولا بدّ، إثر وقوعه منهم، ويظهر ذلك لعباده ويبيّن لهم (3).
الأدلة:
لن نستعرض بالتفصيل أدلة القائلين بالعصمة، وأدلة مخالفيهم، وسنكتفي بعرض الأدلة إجمالاً، ونضرب لها بعض أمثلة تتبين بها طريقة كل طائفة في الاستدلال لما تقول. ونختار ما نراه أرجح. سائلين الله تعالى التوفيق والعصمة.
أولاً: أدلة القائلين بالعصمة عن صدور الذنوب عن الأنبياء:
1 -
آيات قرآنية، من مثل قوله تعالى:{ألا لعنة الله على الظالمين} والعاصي ظالم، فلو عصى النبي صلى الله عليه وسلم لتوجه إليه حكم الآية. واعتقاد ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم كفر. وقوله:{ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} فلو صدرت
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية، القاهرة، مطبعة كردستان العلمية 2/ 283 وأيضاً: منهاج السنة 1/ 130
(2)
الفتاوى الكبرى لابن تيمية. ط الرياض 10/ 290
(3)
ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/ 2
عنهم الذنوب كانوا من حزب الشيطان ولكان من قال الله فيهم: {ألا إن حزب الله هم المفلحون} من العباد والصلحاء، خيراً من الأنبياء. وذلك باطل.
ويناقش ابن تيمية مثل هذا الاستدلال، بأن الظالم هو من أصرّ على الذنب ولم يتب منه، أما من وقع منه فبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله، فلعله يكون خيراً ممن لم يقع منه الذنب أصلاً (1). قال:"وفي الأثر: كان داود بعد التوبة، خيراً منه قبل الخطيئة"(2). فلم يذكر الله تعالى عن نبي ذنباً إلاّ مقروناً بتوبة واستغفار (3).
2 -
أنّا مأمورون بالتأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} ونحو ذلك من الآيات. فلو صدر تعمّد المخالفة أو الغلط أو النسيان عنه لكنا مأمورين بالاقتداء به فيه، وهذا لا يجوز. فثبت استحالة صدور المعصية عنه (4).
ونوقش هذا الدليل بأنه لا يُنتج إلاّ منع استقرار الشرع على غير الوجه الصحيح. قال ابن تيمية: "حجة التأسيّ بالأنبياء صلوات الله عليهم لا تنتج منع الذنب، ولكن منع الإقرار عليه". قال: "المختار أن العصمة ثابتة عن الإقرار على الذنوب مطلقاً. والحجج العقلية والنقلية تنتج هذا لا غير"(5).
وقال أيضاً: "إن هؤلاء من أعظم حججهم ما اعتمده القاضي عياض وغيره حيث قالوا: نحن مأمورون بالتأسيّ بهم في الأفعال، وتجويز ذلك يقدح في التأسيّ. فأجيبوا بأن التأسي هو فيما أُقِرّوا عليه، كما أن النسخ جائز في ما يبلّغونه من الأمر والنهي، وليس ذلك مانعاً من وجوب الطاعة، لأن الطاعة تجب في ما لم ينسخ. فعدم النسخ يقرر الحكم، وعدم الإنكار يقرر الفعل، والأصل عدم كل منهما"(6). اهـ.
(1) الفتاوى الكبرى ط الرياض. 10/ 293 - 295
(2)
منهاج السنة.
(3)
الفتاوى الكبرى ط الرياض 10/ 296
(4)
الرازي: عصمة الأنبياء ص 5، وعياض: الشفاء.
(5)
ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 10/ 293
(6)
ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 15/ 149
وقال الشيخ محمد خليل هرّاس: "الواجب أن نستحي من الله أن نقول ما يخالف كلام الله عز وجل. وما وقع من الرسل من مخالفات قليلة جداً في أعمارهم الطويلة أدّى إليها أحياناً غلبة طبع أو نسيان بمقتضى أنهم بشر، لا يمكن أن يغض من أقدارهم، ولا أن يخرجهم عن منصب القدوة التي جعلها الله لهم"(1).
ونوقش هذا الدليل أيضاً مع من أجاز صدور المعصية الكبيرة نسياناً أو سهواً أو الصغيرة عمداً وسهواً، بأنا مأمورون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في صغير أعماله وكبيرها. فلما لم يقتض دليل الاقتداء منع النسيان والسهو والصغيرة، فكذلك لا يقتضي منع صدور الكبيرة عمداً. وإنما يقتضي الدليل منع الإقرار على الكل كما تقدم.
وقد أجاب أبو هاشم الجبائي عن هذا الاستدلال بقوله: "إن التأسيّ بالعاصى قد يكون طاعة". كالذاهب إلى الكنيسة للكفر، يتأسىّ به من يمضي معه لمطالبة غريم واسترجاع وديعة.
وهذا الجواب غير مرضي، وقد ردّه أبو عبد الله البصري بأن:"المتأسّي بغيره لا يكون متأسّياً في جنس الفعل، وإنما يكون كذلك بأن يفعله على الوجه الذي فعل". يعني بالوجه: غرضه من الفعل.
وقد رجّح القاضي عبد الجبار طريقة شيخه أبي عبد الله البصري (2). وهو الصواب.
أقول: والعجب من الرازي أنه جعل الحاجة إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم دليل عصمته، ولكنه في باب الأفعال النبوية من كتابه المشهور (المحصول) توقف في مسألة التأسّي بها، ورأى أنه غير لازم (3). لاحتمالها الخصوصية - ما لم يبيِّن لنا بالقول أن الفعل المعيّن مقصود به التأسِّي. وهذا تناقض من الرازي، عفا الله عنا وعنه.
(1) تعليقه على الخصائص الكبرى السيوطي 3/ 336
(2)
عبد الجبار: المغني 15/ 286
(3)
المحصول للرازي ق 48 أ.
3 -
دليل التنفير: وهو دليل عقلي. وهو عمدة المعتزلة: قالوا: كلّ ما ينفر عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلم، من الكذب فيما يؤديه وفي غير ما يؤديه، والكبائر، وصغائر الخسة ونحو ذلك، فيجب أن يكون معصوماً منه، لا يصدر عنه. ويكون لذلك معصوماً من الفظاظة والغلظة، وحتى عن كثير من المباحات القادحة في التعظيم. ويدخل فيه قول الشعر والكتابة، إذ كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الفصاحة، والإخبار عن الغيوب (1).
وقد ناقش الغزالي الاستدلال بالتنفير على العصمة، بقوله:"لا يجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفرّ، فقد كانت الحرب سِجالاً بينه وبين الكفار، مع أنه حُفظ عن الخطّ والكتاب لئلا يرتاب المبطلون. وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ، وجماعة بسبب الآيات المتشابهات"(2). اهـ.
وناقشه أيضاً صاحب (التحرير)(3) في ما قبل البعث بقوله: "بعد صفاء السريرة، وحسن السيرة، ينعكس حالهم في القلوب (أي إلى التعظيم والإجلال) ويؤكده دلالة المعجزة، والمشاهدة واقعة به في آحاد انقادَ الخلق إلى إجلالهم، بعد العلم بما كانوا عليه. فلا معنى لإنكاره" اهـ.
فالحق أن دليل التنفير غير قائم، ولا يصح الاعتماد عليه في هذه المسألة.
4 -
دليل الإجماع: قالوا: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء. ولكن الأصوليين وغيرهم اختلفوا فيما ادّعوا الإجماع عليه من ذلك، فالقاضي عياض ذكر الإجماع على عصمتهم. 1 - في العقيدة. و2 - في الأقوال البلاغية، عن العمد والسهو والنسيان والغلط وغير ذلك. و3 - من الخُلف في الأقوال الدينية عمداً وسهواً. و4 - من الذنوب الكبائر.
والرازي أنكر الإجماع فيها إذا كان سبيله السهو والغلط، دون العمد. وادّعى
(1) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 371
(2)
المستصفى 2/ 49
(3)
3/ 20 و21
الإجماع على العصمة من تعمد الصغائر والكبائر. كما حكى عمّن سمّاهم (الحشْويّة) -ولعلّه يقصد أصحاب الحديث- إجازتهم صدور الكبائر سهواً وعمداً. وحكى عن الفُضَيْليَّة جواز صدور الكفر عنهم. وأيضاً حكى الزركشي في البحر المحيط، عن مالك وعن ابن السمعاني، صحة وقوع الصغائر منهم. وتُتدارك بالتوبة (1).
وابن تيمية حكى الإجماع، ولكن جعله إجماعاً على امتناع إقرار الأنبياء على الذنوب، وعلى امتناع استقرار الخلف في التبليغ، دون ما سوى ذلك.
وهكذا نرى أن ما يتحقق فيه الإجماع هو العصمة من الإقرار على الذنوب الكبائر المتعمدة، ومن استقرار الخلف في التبليغ.
5 -
دليل اقتضاء المعجزة للعصمة: وهو دليل عقلي. وبه أخذ ابن فُورَك والغزالي، فيما خالف مقتضى المعجزة.
قال الغزالي: "كل ما يناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بطريق العقل. ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر، والجهل بالله تعالى، وكتمان رسالة الله، والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ، والتقصير في التبليغ، والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه".
قال: "أما ما يرجع إلى مقارفة الذنب فيما يخصه، ولا يتعلق بالرسالة، فلا يدلّ على عصمتهم منه دليل العقل، بل دليل التوقيف والإجماع"(2) اهـ.
إذن فدلالة المعجزة على العصمة دلالة صحيحة، ولكنها دلالة محدودة بدعوى الرسالة وما وقع عليه التحدي، وما يستقر في الشرع مما يبلغه صلى الله عليه وسلم بقوله أو فعله، دون سائر الأقوال والأفعال.
6 -
دليل عقلي: إن الذنوب تنافي الكمال، وأن الأنبياء لكرامتهم على الله لا يصدر عنهم ذنب (3).
(1) البحر المحيط 2/ 246 أ.
(2)
المستصفى 2/ 49
(3)
جمع الجوامع 2/ 95