الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورة المثل الأعلى للعابد، وهكذا الداعية، ورجل السياسة، ورجل الحرب، والأب، والزوج، والقريب، والصاحب والصديق، حتى العدوّ يستطيع أن يتعلم منه كيف ينبغي أن يعامل عدوّه.
و"كل هذه الصور كانت مجتمعة في محمد صلى الله عليه وسلم على توافق وانسجام"(1) وتعادل، لا يطغى بعضها على بعض كما قد تطغى بعض الصفات في الأبطال على سائر الصفات.
هل كان محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى:
يقول جولد تسيهر: "لو أن الإسلام قد تمسّك بشهادة التاريخ الحق تمسكاً دقيقاً لوجد أنه لا يستطيع أن يُمدَّ المؤمنين به بفكرة مثاليّة للحياة الأخلاقية، وهي فكرة اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى واحتذائه. لكن المؤمنين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بصورة محمد صلى الله عليه وسلم كما رسمها التاريخ الصادق، بل حلّ محلها من أول الأمر، الصورة المثاليّة للنبي في رأيهم".
ثم يقول: "إن علم الكلام في الإسلام، حقق هذا المطلب، بما رسم للنبيّ صلى الله عليه وسلم من صورة تمثله بطلاً ونموذجاً لأعلى الفضائل، لا مجرد أداة للوحي الإلهي ونشره بين غير المؤمنين. على أنه يبدو أن هذا لم يرده محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد قال إن الله أرسله {شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} أي إنه مرشد، لا نموذج ومثل أعلى، أو -على الأقل- إنه ليس كذلك {أسوة حسنة} إلاّ بفضل رجائه وذكره الله كثيراً (سورة الأحزاب: آية 21) ولقد كان على ما يبدو مدركاً بإخلاص ضعفه الإنساني، ومن ثَمَّ كان عمله أكثر من شخصه". اهـ (2).
هذا المعنى الذي ألح عليه المستشرق اليهودي، أشار إليه الآخر: يوسف شاخت، في مادة (أصول الفقه) في (دائرة المعارف الإسلامية) حيث ذكر أن
(1) محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص 223
(2)
جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام - ترجمة محمد يوسف موسى وزميليه ط ثانية. القاهرة، دار الكتب الحديثة (د. ت) ص 35
أقواله صلى الله عليه وسلم لم تكن موضع شك منذ البداية، أما الأفعال فإنما اتّخذ فيها مثلاً أعلى رَغمْاً عن أن شريعته لا تدل على ذلك.
ونحن سنثبت -إن شاء الله- حجية أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الفصل الثالث من الباب الأول. ولن نرد على ما في كلامهما من الباطل الذي دعاهما إليه الكفر. ولكن يهمنا هنا إثبات أنه صلى الله عليه وسلم جُعِل الصورة المقتدى بها في الدين، وأن بملاحظة أفعاله يحصل تعلم الدين، وأنه كان المثل الأعلى للبشر في حدود البشرية من جهة الدين، وأن ما أشار إليه جولد تسيهر وزاغ عنه، وهو قوله تعالى في الأخلاق والعبادة والمعاملة:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} دليل في ذلك. وسياق الآية في الثبات في الحرب، لا في مجرد العبادة.
وحتى الآية التي كفر بها جولد تسيهر، فيها أن الله أرسل نبيه {سراجاً منيراً} ، والسراج يضيء من داخله.
وقد جاء ثلاثة رهط إلى أبيات النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته لربه، فأخبروا بها، فكأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فالتزم بعضهم أن لا ينكح النساء، والآخر أن يصوم ولا يفطر، والثالث: أن يقوم فلا ينام. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم، فقال:"أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر، وأقوم، وأنام، وأتزوّج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني"(1). فلم ينبّههم إلى الحق بذكر آية، أو تبليغ وحي، وإنما نبّههم إلى فعل نفسه، وإلى ما يلتزم به، وأن من ناقَضَ مقتضى الاقتداء به في ذلك، فليس على شريعته.
وأمر آخر يدل على المطلوب دلالة واضحة، وهي أن الله تعالى قصّ علينا في كتابه قصص أنبيائه والصالحين من عباده. وإنما قصّهم ليكونوا عبراً ومُثُلاً تحتذى، كما في توبة آدم، ودعوة شعيب، والتزام إبراهيم، ووصية يعقوب لبنيه بالتوحيد، وعفة يوسف، واستغفار يونس، وطاعة إسماعيل، وقوة موسى، وعبادة مريم،
(1) بمعنى رواية البخاري (فتح الباري. ط مصطفى الحلبي 11/ 4) ورواه مسلم 9/ 176
وعبودية عيسى، عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه. فكيف لا تكون أفعال أفضلهم وأكرمهم وأتقاهم لله، قدوة ومثالاً يحتذى، وهو خاتمهم الذي جعل للناس كافة رسولاً؟ وكان خاتماً للرسل، فهو نبي جميع العصور اللاحقة حتى تقوم الساعة.
ومعلوم أن أفعاله يقتدى بها من حيث هي دليل على أحكام الله، لا لذاتها من حيث إنها أفعاله، وكونه (مثلاً أعلى) إنما هو في شدة تمسّكه بما أمره به ربه، وشدة متابعته للمنهج الذي رسمه له. وقد وضّح صلى الله عليه وسلم هذا عندما قال لمن أبي الاقتداء به في حكم ديني، محتجاً بأن الله يحل لرسوله ما شاء: قال له: "لكني أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي" فأشار إلى أنه قدوة من حيث كونه أعلى الناس في تقوى الله، مع كونه أعلمهم بأحكام الله. وقال لبعض الصحابة:"أما لكم فيّ أسوة"(1) وكلام المستشرق الآنف الذكر يوهم أن المسلمين جعلوه صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى تحتذى أفعاله لذاتها، على اعتبار أنه إن فعل شيئاً أصبح شرعاً، ولو لم يقصد به التشريع. وهذا لم يذهب إليه أحد من المسلمين، إلا بعضهم في أفعال محدودة سنبيّنها في موضعها إن شاء الله. بل أكثر كلام الأصوليين في باب الأفعال دائر حول تمييز ما هو دليل على الحكم الشرعي مما ليس بدليل.
وقد حقّق الاقتداءُ به صلى الله عليه وسلم مستويات عالية في الإيمان والإخلاص والجهاد والعلم والعبادة والدعوة، تمثّلت في أشخاص الصحابة الكرام، وفي المجاهدين المخلصين لله في كل عصر وجيل من أجيال أهل الإسلام. ولا تزال هذه القدوة العظيمة تنبت أبطالاً في كل عصر، يكونون شجىً في حلوق أعداء الله. وكأنّ الله عز وجل يشير إلى هذا بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
…
} إلى قوله: {
…
ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (2).
(1) رواه مسلم 5/ 186
(2)
سورة الفتح: آخر السورة.