الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع الأدلَّة والمناقشات
نتعرّض في هذا المبحث لأدلة الأقوال السبعة المتقدمة، فنوردها، ونبيّن أوجه الاستدلال بها، ونذكر ما يورد عليها.
وقد قدمنا أن الأقوال الثلاثة الأخيرة، وهي قول الإباحة، وقول التحريم. وقول الوقف، مبناها على عدم التأسي بالفعل النبوي المجرد بدعوى أنه محتمل للخصوصية، والفعل الخاصّ يمتنع الاقتداء به.
ونحن نناقش هذه الدعوى المشتركة بين الثلاثة في مطلب، ثم نستعرض الأقوال الثلاثة، واحداً واحداً، ونعقد لكل منها مطلباً.
المطلب الأول في مناقشة دعوى امتناع التأسيّ لاحتمال الخصوصية ونحوها
لا شك أن للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص لا يشاركه فيها أحد من أمته، وقد تقدم ذكر ذلك.
وهناك أفعال ثبتت المشاركة في أحكامها بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة كالإسلام والصلاة والصوم والحج وصلة الرحم ونحو ذلك. وكسائر الأفعال البيانية، والأفعال التي هي امتثال وتنفيذ لآيات معلومة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة. ومثلها أيضاً الأفعال التي أمرنا بالتأسّي فيها بأعيانها.
وأما الواسطة، وهي الفعل المجرّد الذي لم يُعلم أنه خاص، ولم يُعلم أنه مشترك الحكم، فهل يُقتدى به؟ هذا موضع الاختلاف.
فأما الذين منعوا التأسّي به أصلاً، وهم أصحاب الأقوال الثلاثة المذكورة فقد قالوا: إنه لما كان احتمال الخصوصية قائماً في كل فعل مجرد، فليس لأحد أن يدعي جواز أخذ الحكم منه، فلعلّه أن يكون مما يجوز له صلى الله عليه وسلم ويحرم على غيره، فيكون من اقتدى به قد فعل حراماً.
إذا نظرنا -منصفين- نجد أن خصائصه التي ثبتت بأدلة صحيحة قليلة جداً، وقد قدرناها فيما مضى بخمس عشرة خاصة، وجزء كبير منها إنما خصوصيتها بكونها محرمة عليه، والمحرم لا يفعله صلى الله عليه وسلم، فلا يبقى من الأفعال التي فعلها والتي ثبت اختصاصه بأحكامها أكثر من عشر خصائص.
هذا بينما أكثر الأحكام الشرعية ثبت الاشتراك فيها، كأنواع العبادات وأركانها وشروطها، وما يستحب فيها من الأفعال والهيئات وكذلك الآداب والمعاملات التي ثبت الاشتراك فيها، تزيد أضعافاً مضاعفة عما ثبت الاختصاص فيه.
ومن هنا فإن الفعل المجرّد ينبغي ألاّ تُمنع دلالته في حقّنا لأجل الاحتمال الضئيل لكونه خاصة من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
يقول الآمدي: "وأما بالنسبة إلى أمته، فلأنه وإن كان، عليه الصلاة والسلام، قد اختصّ عنهم بخصائص لا يشاركونه فيها، غير أنها نادرة، بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها. وعند ذلك، فما من أحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة، إدراجاً للنادر تحت الأعم الأغلب، فكانت المشاركة أظهر"(1). اهـ.
وبمثله أجاب ابن الهمّام أيضاً (2).
(1) الإحكام 1/ 250
(2)
تيسير التحرير 3/ 127
لقد حاول الغزالي أن يردّ هذا الاستدلال بقوله: "فإن قيل التعميم أكثر فلينزل عليه.
"قلنا: وَلَمْ يُجب التنزيل على الأكثر، وإذا اشتبهت أخته بعشر أجنبيات فالأكثر حلال ولا يجوز الأخذ به"(1). اهـ.
وهذا التنظير غير مستقيم، لأن المخالف يدّعي ندرة الخصوصيات، لا مجرّد قلتها. والتنظير الصحيح ينبغي أن يكون بما يقوله الفقهاء من أنه لو اشتبهت أخته بنساء أهل مدينة أو قرية غير محصورات، لم يحرم عليه الزواج منها (2).
ولا شكّ أن القاعدة (الحكم للأغلب ولا عبرة بالنادر) قاعدة صحيحة في باب الأدلة الشرعية. ولو نحن أبطلنا كل دليل في الكتاب والسنة لاحتمال ضئيل، لأبطلنا بذلك حجيّة القسم الأكبر من الشريعة، من أخبار الآحاد والقياس، بل والآيات والأحاديث المتواترة التي قد يتطرق احتمال إلى دلالالتها.
ويقول المازري: "وبالجملة فالأظهر في هذا أننا مأمورون بالاتباع على الجملة فإن الصحابة كانت تدين بهذا. وإذا طرقنا إلى مثل هذا الاستدلال ما أشار إليه الواقفية من التجويز، فتحنا على أنفسنا مطاعن من طعن علينا في استدلالنا بآثارهم في إثبات القياس والعمل بخبر الواحد. وهذا واضح. وإنما يبقى النظر في مسلكهم اتباعه صلى الله عليه وسلم (كذا) هل كانوا يعتقدون الوجوب أو الندب"(3).
ويقول أبو شامة: "مذهب الواقفية مستلزم للتوقيف في أقوال الشارع وأفعاله، ولزم من ذلك التوقف في أكثر الأحكام الشرعية، وهو خلاف ما عليه السلف وأئمة الهدى من فقهاء الأمصار"(4).
هذا وقد أحسن أبو الخطاب صياغة الردّ على من منع التأسي لاحتمال الخصوصية، إذ يقول: "احتجّوا بأن ما يفعله يجوز أن يكون مصلحة له دوننا (5)
(1) المستصفى 2/ 51
(2)
السيوطي: الأشباه والنظائر ص 56
(3)
أبو شامة: المحقق ق 13 ب.
(4)
المحقق ق 22 ب.
(5)
التمهيد ق 89 ب.
"والجواب أنه يجوز أن يكون مصلحة لنا أيضاً، وقد أمرنا اتباعه، فوجب ذلك، لأن الظاهر أن المصلحة في الفعل تعمّه وإيانا، إلا أن يردّ دليل بتخصيصه".
وأما احتمال المعصية ونحوها فقد أجبنا عليه في الفصل الثالث.