الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادساً: السهو والنسيان:
أما فيما لا يتعلق بالبلاغ وبالتكليف، كأنْ ينسى ما سمعه من القصص والأخبار وكلام الناس، فلا إشكال في جواز ذلك.
وفي القرآن إشارات إلى أن الله تعالى قد يُنسي نبيه صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحاه إليه من القرآن مما يريد تعالى أن ينسخه، كقوله تعالى:{سنقرئك فلا تنسى إلّا ما شاء الله} (1)، وقوله:{ما ننسخْ من آية أو نُنْسِها نأت بخير منها أو مثلها} (2).
وأما سائر ما يوحى إليه صلى الله عليه وسلم من القرآن، والأقوال التي يأمره بتبليغها، فهو معصوم من النسيان فيها بالإجماع. فإن قوله تعالى:{سنقرئك فلا تنسى} يدل على أن الله تعالى يعصمه من نسيانه، وكذلك قوله تعالى:{لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه} (3) وجمعه، كما قال المفسرون، جمعه في صدره صلى الله عليه وسلم حتى لا يفقد منه شيء.
ولكن ورد في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم نسي بعض الآيات. ففي سنن أبي داود عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة، فقرأ فيها، فلبِّس عليه. فلما انصرف قال لأبي بن كعب:"أصليت معنا؟ " قال: نعم. قال: "فما منعك" قال الخطابي: إسناده جيد.
وروى أبو داود أيضاً عن مسور بن يزيد المالكي، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة، فترك آية من القرآن، فقيل: يا رسول الله: آية كذا وكذا تركتها. قال: "فهلا ذكرتنيها".
فإن صحّ الحديث بذلك، فالذي ينبغي أن، يقال: إنه إذا أبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ما أوحي إليه به، وخاصة إذا كتب في المصحف، فقد حصل البلاغ وتأدَّت الأمانة، فلا يمتنع أن ينسى صلى الله عليه وسلم شيئاً منه. قال ذلك ابن عطية (4).
(1) سورة الأعلى: آية 6
(2)
سورة البقرة: آية 106
(3)
سورة القيامة: آية 16
(4)
الزركشي: البحر المحيط 2/ 246 ب.
وأما ما كلّف به صلى الله عليه وسلم من الأفعال فهل ينسى فيفعل ما نهى عنه، أو يترك ما أمر به سهواً عنه.
تقدم أن الإمامية من الشيعة، والرازي في بعض كتبه، وبعض من تابعهم وغلا في النبي صلى الله عليه وسلم، منع صدور النسيان عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد احتجوا برفعة مقام الأنبياء، وأن النسيان ينقص من أقدارهم.
ويجاب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن طبيعته البشرية المقتضية لوقوع ذلك منه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم -في رواية: أذكر كما تذكرون و- أنسى كما تنسون"(1).
وقد استثنى بعض الذاهبين إلى امتناع النسيان عليه صلى الله عليه وسلم، فأجازوا أن يسهو في أحوال خاصة، ليعلِّم أمّته كيف يصنعون إذا نسوا، كما سها في الصلاة، فعلمهم سجود السهو (2). واحتجوا بحديث رواه مالك في موطئه (3)، بلاغاً، وانفرد به، ونصّه:"إني لأنسى أو أُنَسّى لأسُنّ ". وقد قال بعض الذاهبين إلى ذلك: إنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمد أن ينسى في الصلاة ليسنّ (4). وذلك خطأ، فإن تعمد السلام من اثنتين في الظهر مثلاً يبطل الصلاة والبيان بالقول كاف، فلا ضرورة تُلْجئ إلى ذلك. هذا بالإضافة إلى عدم معقولية تعمُّد النسيان.
والقول الثاني: وهو الصواب إن شاء الله: جواز نسيان التكليف والسهو فيه. وبهذا قال الرازي في كتابه (عصمة الأنبياء)، والآمدي والغزالي والباقلاني وغيرهم، وهو قول جمهور العلماء، بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه (5).
(1) رواه أحمد وابن ماجه (الفتح الكبير) ورواه مسلم 5/ 66 والبخاري صلاة/ 31
(2)
الزركشي: البحر المحيط 2/ 246 ب.
(3)
البناني: حاشيته على شرح الجوامع 2/ 95
(4)
البحر المحيط 2/ 247 أ، الشفاء 2/ 144 ونسب هذا القول إلى أبي المظفر الإسفرائيني.
(5)
الشوكاني: إرشاد الفحول ص 35