الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن أول رباً أضع ربا عمي العباس بن عبد المطلب. ألاّ وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب" (1).
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظه في أفعاله من حيث إنها قدوة:
النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله إلى هذه الأمة كان هو إمامها في مسيرتها على شريعة الله.
وهذه الدرجة تقتضي صاحبها أن يلاحظ أفعاله من حيث إنها قدوة ومتّبعة، ومتأسّىً بها، فلا يسترسل كما قد يسترسل غيره ممن لا يقتدى بهم.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيء"(2). وقال صلى الله عليه وسلم: "من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله"(3).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يلحظ هذا كله، ويعلم أن أفعاله حجة، وأنه منظور إليه، ومؤتمٌ به ومتبع، وهذا دعاه إلى وزن أفعاله بميزان الشرع، بالإضافة إلى عناية خاصة تتبع مهمة التعليم اقتضت أموراً نفصلها كما يلي:
الأمر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتنب مواضع التهم، ولا يفعل شيئاً يتضمن نقص مروءة. ولا يفعل ما يستنكر ظاهراً وإن كان جائزاً باطناً. فإن وقع شيء من ذلك لحاجة أو نحوها أخبر بحكمه وعذره ومقصوده، كيلا ينفر عنه مشاهده، وليستفيد ذلك الحكم الجاهل به (4).
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين لما رأياه يتحدّث مع زوجته صفية في المسجد
(1) صحيح مسلم (جامع الأصول 4/ 236)
(2)
رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن جرير (الفتح الكبير).
(3)
رواه مسلم وأحمد وأبو داود (الفتح الكبير).
(4)
انظر: ابن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم. ط الهند ص 20
ليلاً، فولّيا، قال:"على رسلكما، إنها صفية بنت حُيَيٍّ"(1) ثم قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئاً".
وقد نبّه عبد الكريم زيدان (2) إلى قيد جيد في هذه المسألة، وهو أن الفعل الذي يترك حذراً من الشبهة، ينبغي أن لا يكون من صميم الدعوة، فإن كان من صميم الدعوة فينبغي فعله، ولوكان فيه تنفير. فما ظُنَّ أن حكمه التحريم وليس بمحرم، فإنه يفعل لبيان الجواز، وإن قال الناس ما قالوا. فهذا من بيان الحق، كما تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب مطلقة زيد الذي كان يدعى ابنه قبل أن ينزل القرآن بإبطال التبني. فكان زواجه بها بياناً (3)، لم يمتنع من فعله خوف قالة الناس.
الأمر الثاني: الحرص على خفة الفعل المظهر، فلا يكون فيه مشقة وعسر، لئلا يأخذ الاتباع أنفسهم بالشدة كما يأخذ بها نفسه.
وقد أثنى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه كان يشقّ عليه ما يشقّ على الأمة، بقوله:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (4) وتقول عائشة رضي الله عنها: "إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيشق عليهم"(5).
وتقول رضي الله عنها في الركعتين اللتين بعد العصر: "والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة. وكان يصلّي كثيراً من صلاته قاعداً. وكان يصلّيهما، ولا يصلّيهما في المسجد، مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحبّ ما خفّف عنهم"(6).
وتروي رضي الله عنها الحادثة التالية، قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
(1) رواه البخاري مسلم وأبو داود (جامع الأصول 1/ 246)
(2)
عبد الكريم زيدان: أصول الدعوة، ص 403، 404
(3)
لنا في الاستدلال بالآية الواردة في ذلك رأي خاص نذكره في الفصل الثالث.
(4)
سورة التوبة: آخر السورة.
(5)
رواه البخاري 3/ 10 ومسلم.
(6)
رواه البخاري 2/ 64
عندي، وهو قرير العين طيب النفس، فرجع وهو حزين النفس، فقلت له، فقال: إني دخلت الكعبة وودت أني لم أكن فعلت، إني أخشى أن أكون أتعبت أمّتي من بعدي" (1).
فإن عمل بما فيه شدة، وكان خاطئاً به، بيّن اختصاصه بذلك لئلا يقتدوا به فيه، كما فعل في الوصال في الصوم، إذ قال:"إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني ويسقيني"(2).
الأمر الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم كان في الأفعال الشرعية التي تتكرر يواظب غالباً على فعل الشيء على أكمل الوجوه وأتمها، وذلك ليتعلم منه من لا يعلم، وليصححوا أفعالهم حسب فعله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك الوضوء، كان أكثر وضوئه ثلاثاً ثلاثاً، مع الإسباغ والمبالغة. وربما توضأ مرة مرة. أو مرتين مرتين، لبيان الجواز (3).
ومن ذلك الصلاة، يؤديها جماعة أمام الناس على أكمل الوجوه والهيئات، مع تخفيفها، لتتعلم منه كيفية الصلاة برؤيته وهو يصلي، بخلاف ما إذا صلى حيث لا يراه الناس، فقد كان يترخص فيصلي جالساً أحياناً، واتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه (4).
وقد قال ابن جماعة في مثل ذلك من آداب المعلم المقتدى به: "أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام،
…
، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها. فإن العلماء هم القدوة، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله على العوّام، وقد يراقبهم من لا يعلمون" (5).
الأمر الرابع: عنايته صلى الله عليه وسلم بأن لا يساء فهم دلالة الفعل عنه، بأن يفهم منه
(1) رواه الترمذي وهذا لفظه، وأبو داود (جامع الأصول 4/ 54) ورواه أحمد.
(2)
رواه البخاري وأبو داود (جامع الأصول 7/ 250)
(3)
ذكر ذلك الزركشي في (البحر المحيط) 2/ 252
(4)
لما أسن وحمل اللحم. رواه أبو داود 3/ 226
(5)
في (تذكرة السامع والمتكلم) ط الهند. ص 21
النسخ لقول سابق وهو لا يريده، أو نحو ذلك. فيبيّن ما يفرق به رائي الفعل بين ما يجوز وما لا يجوز.
من ذلك إنه بكى صلى الله عليه وسلم عندما ظنّ أن سعد بن عبادة مات. وكان قد نهى عن النياحة، وقال:"إن الله لا يعذّب بدمع العين، ولا بحزن القلب. ولكن يعذّب بهذا أو يرحم"(1). وأشار إلى لسانه.
ومن ذلك أنه غضب عندما علم أن علياً يريد أن يتزوج زوجة أخرى على فاطمة رضي الله عنهما، ولم يأذن في ذلك، ثم قال:"وإني لست أُحرِّم حلالاً، ولا أُحل حراماً. ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً"(2). فبيّن أن غضبه ليس لكون الأمر محرماً، بل هو على الحل، وإن كان يرفضه هو.
ولم يتحلل من عمرته في حجة الوداع، فامتنع بعض الناس من التحلل، فبيّن لهم أن الذي معه من الحل أنه ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحر.
ومن ذلك أنه كان إذا فعل فعلًا بمقتضى الرخصة والعذر، ينبّه أحياناً على ذلك من لا يدري، لئلا يظن أن ذلك الفعل هو العزيمة. ومثاله أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بأصحابه بمكة قصراً، وكان معهم في الصلاة مكيون، قال لهم:"يا أهل البلد صلوا أربعاً فإننا قوم سفر"(3).
الأمر الخامس: حرصه صلى الله عليه وسلم على نقل أفعاله إلى الناس ليقتدوا بها ويتعلموا منها أحكام الشريعة، فكثيراً ما كان يعمل العمل في مكان بارز، ويستدعي التفات الناس إليه، كما فعل في يوم عرفة، إذ شرب وهو يخطب الناس، وهم ينظرون إليه (4)، ليعلم الناس أن سنة الواقف بعرفة الفطر.
(1) رواه البخاري ومسلم (جامع الأصول 11/ 406)
(2)
رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود (جامع الأصول 10/ 83)
(3)
رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (عون المعبود 4/ 96)
(4)
يفهم من روايات البخاري (نيل الأوطار 252، 254).
وكما صلّى يوماً على المنبر، ورجع وسجد بالأرض، وقال:"إنما صنعت هذا لتأتمّوا بي ولتعلّموا صلاتي"(1).
وكان يضحّي بمصلى العيد (2) أمام جمهور الناس.
و"طاف بالبيت وبين الصفا والمروة، على بعيره، ليراه الناس، وليشرف، وليسألوه"(3).
ومن وسائله لنقل أفعاله إخباره بنفسه عن كثير مما يفعل ابتداء، أو جواباً على سؤال، أو إنكاراً على من فعل خلاف ذلك، أو ثناء على من فعل مثل فعله وإقراراً له.
من ذلك قوله: "إني لا آكل متكئاً"(4).
وسأله سائل هل يغتسل إذا أتى أهله من غير إنزال، فقال:"إني لأفعل ذلك ثم اغتسل"(5).
وقال لرهط أرادوا التشديد على أنفسهم: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(6).
وقال لجعفر بن أبي طالب: "أشبهت خلقي وخلقي"(7).
ومن وسائله أيضاً، أنه صلى الله عليه وسلم كان يحاول تكثير مشاهديه، وانتقاءهم من أهل العلم والإيمان ليأخذوا عنه، كما قال في صفوف الصلاة: "ليلني منكم أولو الأحلام
(1) رواه البخاري 2/ 397 ومسلم 5/ 35
(2)
أبو داود والنسائي (جامع الأصول 4/ 146).
(3)
رواه مسلم وأبو داود (الرصف/ 5531).
(4)
رواه البخاري 9/ 540 وأبو داود 10/ 243
(5)
رواه مسلم (الرصف 1/ 204).
(6)
رواه البخاري 9/ 104 ومسلم 9/ 176
(7)
رواه البخاري 5/ 304 والترمذي 10/ 270