الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع قول المساواة
ومعناه أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجباً فإنه يدل على وجوب مثله علينا، وما فعله ندباً فمثله مندوب منا، وما فعله على سبيل الإباحة فهو لنا مباح. وسواء كان فِعْله عبادة أو غير عبادة.
وقد يعبّر بعض الأصوليين، كما ذكر الأسنوي (1). عن هذا القول بعنوان:(وجوب التأسّي). ولكنه عنوان يجعل هذا القول يلتبس بقول الوجوب الذي سبق ذكره. وأمّا عنوان (المساواة) الذي اخترناه، فهو عنوان معبِّر لا يحصل به التباس.
ثم إن كان حكم الفعل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم معلوماً فالمساواة فيه واضحة، وإن لم يكن معلوماً فإن المساواة فيه هي بحسب ما يترجح لدى المجتهد. فمن رجّح الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم، فبمقتضى قول المساواة يكون الحكم في حقنا الوجوب، ومن رجح الندب فالندب، ومن رجح الإباحة فالإباحة.
ونحن قد رجّحنا قول من حمل فعله المجهول الصفة على الندب في حقه صلى الله عليه وسلم إن ظهر قصد القربة، وعلى الإباحة إن لم يظهر. فعلى قول المساواة يكون الحكم في حقنا كذلك.
ويستدل لهذا القول بالأدلة التي سقناها في الفصل الذي دللنا فيه على حجية الأفعال النبوية من حيث الجملة، حيث سقنا الآيات والأحاديث الدالة على ذلك. وذكرنا أن الإجماع يدل عليه أيضاً، فبذلك يثبت أصل التأسّي.
(1) نهاية السول 2/ 55
ونضيف هنا أمرين لا بد منهما لاثبات قول المساواة:
الأول: إن الاتباع والتأسي في الأفعال واجب (1).
والثاني: إن الاتباع والتأسي يقتضي المساواة في صورة الفعل وفي حكمه أيضاً.
فإذا ثبت الأمران ثبت أنه يجب أن تكون أحكام أفعالنا مساوية لأحكام أفعاله صلى الله عليه وسلم.
أما الأول: فإثباته بأدلة، منها:
1 -
قوله تعالى: {واتّبِعوه} أمر، والأمر يفيد الوجوب.
والقائلون بالندب ادّعوا أن هذا الأمر (اتبعوه) لا يفيد إلا الندب، كما زعم ذلك أبو شامة (2)، قال: الصواب حمله على الندب لا على الوجوب، لأنا لو حملناه على الوجوب لخصصناه بأشياء كثيرة ندبيّة لا تجب علينا وقد فعلها. ولو حملناه على الندب لم يلزمنا مثل ذلك.
والجواب على طريقته: إنا لو حملناه على الندب لخصصناه أيضاً بأشياء كثيرة واجبة تستفاد من فعله صلى الله عليه وسلم.
فالصواب حمل هذا الأمر (اتّبعوه) على ظاهره من وجوب المتابعة، الذي يقتضي المساواة في الأحكام. فلا يخصص بشيء، لأن ما فعله وجوباً نفعله وجوباً ونعتقد وجوبه، وما فعله ندباً نعتقده ندباً في حقنا، وما فعله إباحة نعتقده في حقنا كذلك.
(1) قد يشكل القول بوجوب التأسّي في الفعل المندوب أو المباح، فكيف يكون التأسّي واجباً ولا يكون المتأسى فيه واجباً. وقد وضح الأنصاري شارح مسلم الثبوت مقصود القائلين بذلك حيث يقول: "التأسّي واجب يعني أن مراعاة الصفة واجبة. وهذا كما يقال: العمل على طبق خبر الواحد واجب، مع أن بعض الأخبار يفيد الندب أو الإباحة، يعني أن مراعاة حكم الخبر واجب، فكذا التأسّي بمراعاة الصفة واجب (فواتح الرحموت 2/ 180)
(2)
المحقق ق 25 ب.
2 -
ومنها آية التأسّي، وقد تقدم إيضاح وجه دلالتها على الوجوب.
والقائلون بالندب نَفَوْا دلالتها على الوجوب، لقوله تعالى:{لقد كان لكم} ولم يقل {عليكم} (1).
والجواب أن قوله تعالى: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} بدل من (لكم) فيؤول المعنى إلى أنّ: من كان مؤمناً فله برسول الله أسوة حسنة. وفي مفهومه تهديد ووعيد لمن ترك ذلك، والتهديد يدل على الوجوب.
وأجاب السمعاني (2) أن الذي لنا هو الأجر، فالأسوة لنا من هذا الوجه لا من غيره. وهو جواب سديد، ويؤيده ما في حديث الإسراء:"فأعطاني خمس صلوات". فهي فرائض، وهي عطاء، أي ما في فعلها من الأجر. وأجاب أبو الحسن البصري (3) بأن قولك:"لنا أن نفعل" معناه: لا حظر علينا في فعله، والواجب ليس بمحظور فعله.
وأجاب القاضي أبو يعلى: بأن (لهم) بمعنى (عليهم). كقوله تعالى: {لهم اللعنة} وليس هذا الجواب مرضياً، إذ هو خلاف. الظاهر.
3 -
ومنها ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني". في سياق مساواته صلى الله عليه وسلم في أحكام أفعاله.
وأما الثاني: وهو اقتضاء التأسيّ والاتباع المساواة في أحكام الأفعال: فإن مفهوم المتابعة والتأسي الموافقة والمساواة، وذلك كما هو معتبر في صورة الفعل، يعتبر أيضاً في حكمه.
وقد أنكر القائلون بالندب، والقائلون بالوجوب، اقتضاء التأسّي والمتابعة المساواة في الحكم. وسبق جوابه. فيثبت المطلوب.
(1) المحقق ق 27 أ.
(2)
القواطع ق 6 - ب.
(3)
المعتمد 1/ 380
من أجل ذلك فقول المساواة هو الذي نختاره. وبه قال الشوكاني (1). وقبله قال به أبو الحسين البصري، والآمدي، والسبكي في جمع الجوامع، وغيرهم.
ويتأيّد هذا الذي اخترناه بأن الأمر إذا وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل، فإن الأمة تدخل تبعاً فيما كان صالحاً لهم، ما لم ينص على اختصاصه به. وكذلك النهي. بل ربما نزلت الآية بسبب صحابي معين ولكن يوجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{أقم الصلاة طرفي النهار وزُلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} . نزلت في أبي اليسَر بن عمرو الأنصاري (2). روى الترمذي أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها وأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئت. فذكَرَ نزول الآية. فالخطاب فيها بحسب الظاهر موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نازلة في شأن غيره. وما ذاك إلا لهذا الأصل، وهو الاشتراك في الأحكام.
وليست هذه القاعدة متفقاً عليها.
بل الواقفية يخالفون فيه أيضاً، ويقولون: إن الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بضمير المفرد، لا يدخل فيه غيره، لأن لفظ الأمر وقع خاصاً، ليس يتناول غيره، فلا يجوز إثباته. يقول الغزالي:"قوله تعالى لنبيّه: {يا أيها النبي اتق الله} وقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} مختصّ به بحكم اللفظ، وإنما يشاركه فيه غيره بدليل، لا بموجب هذا اللفظ، كقوله {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك} وقوله: {فاصدع بما تؤمر} قال: "وقال قوم: ما ثبت في حقه فهو ثابت في حق غيره، إلا ما دل الدليل على أنه خاص به. وهذا فاسد. لأن الأصل اتباع موجَب الخطاب، وما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:{يا أيها النبي} فيختصّ به، إلا ما دل دليل على الإلحاق. وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر:"راجعها" إنما يشمل غيره بدليل آخر، مثل قوله:"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"(3) أو ما جرى مجراه. اهـ.
(1) إرشاد الفحول ص 36
(2)
تفسير القرطبي 9/ 111
(3)
حديث "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" يكثر الأصوليون من ذكره والاحتجاج =
أقول: ومما جرى مجراه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة"(1).
وهذا الكلام من الغزالي حق، ونحن نقول بمقتضاه، ولكن نقول إن الأدلّة قامت على التساوي في الأحكام، بصفتها العامة، وأيضاً في حق أحكام الأفعال خاصّة، وهي ما تقدم في حجية الأفعال النبوية.
وأيضاً استعمال أهل اللغة يساعد على ذلك، فإن الرئيس الأعلى إذا قال لقائد الجيش: انزل في محل كذا، وسرْ في وقت كذا، واستعمل من السلاح كذا وكذا، ونحو ذلك، فليس ذلك خاصاً به، بل له ولمن معه. ولو أراد أن يأمره في خاصة نفسه بشيء فإنه ينصّ على الاختصاص (2).
فالنبي صلى الله عليه وسلم صاحب شرع، ومنه يؤخذ الشرع، إذا أمره الله بالأمر من الشرع فهو له وللأمة التي هي تَبَع له.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أمرني الله بشيء إلا وقد أمرتكم به، ولا نهاني عن شيء إلا وقد نهيتكم عنه".
وفي الحديث أيضاً: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذنَ لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة"(3). فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الإذن بزيارة قبر أمه، بنى على ذلك جواز زيارة سائر المسلمين للقبور.
ومما يدل على المساواة أيضاً قول الله تعالى: {يا أيها النبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك
…
إلى قوله:
= به. قال السخاوي "ليس له أصل، قاله العراقي. وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه"(المقاصد الحسنة ص 192)
(1)
رواه الترمذي وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما (المقاصد الحسنة ص 193)
(2)
نقل الآمدي هذا الاستدلال عن قوم، ووجهه، ثم رد عليه. وانظر كتابه: الإحكام 2/ 380 - 382
(3)
رواه الترمذي (الفتح الكبير).
وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبيّ إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين} (1).
قال ابن تيمية (2): "إنها تدل على هذا الأصل من وجهين:
أحدهما: أنه قال {خالصةً لك} ليبيّن اختصاصه بذلك، فعلم أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتاً، وإلا فلا معنى لتخصيص هذا الموضع ببيان الاختصاص.
والثاني: أن ما أحلّه له من الأزواج والمملوكات أطْلق، وفي الواهبة قيّدها بالخلوص له، فعلم أنه حيث سَكَت عن التقييد فذلك دليل الاشتراك".
ويتأيّد أيضاً بما بيّنه الشاطبي (3) من أن الأدلة الجزئية في الشريعة يمكن أخذها كلية إلا ما خصّه الدليل.
واستدل على ذلك بأدلة.
منها: أن الأصل عموم التشريع، كقوله تعالى:{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (4) وقوله: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى كلّ أحمر وأسود"(6).
ومنها: أصل شرعية القياس، إذ لا معنى له إلا جعل الخاصّ الصيغة عامّاً في المعنى. قال وهو معنى متفق عليه.
ومنها: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"(7) وقال: "إني لأَنْسَى أو أُنسَّى لأسُنّ"(8).
(1) سورة الأحزاب: آية 50
(2)
الفتاوى الكبرى 4/ 444.
(3)
الموافقات 3/ 51 - 53
(4)
سورة الأعراف: آية 158
(5)
سورة سبأ: آية 28
(6)
رواه مسلم 5/ 1
(7)
تقدم آنفاً اإشارة إلى أن الحديث لا أصل له.
(8)
رواه مالك (1/ 100) بلاغاً، وانفرد به. انظر الكلام عليه في مقدمة تنوير الحوالك للسيوطي، وتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي للموطأ (1/ 100)
ومنها: مما بيّنه في موضع آخر (1) من أن الشريعة موضوعة في الأصل لمصالح العباد، فأحكامها على العموم لا على الخصوص، إلا ما ثبت فيه الخصوص بالدليل، وأن دليل الاختصاص يذكر في الحكم المختص إعلاماً بأن الشريعة خارجة عن قانون الاختصاص.
(1) الموافقات 3/ 51 - 53