الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجه الوقف فيما ظهر فيه قصد القربة، احتمال أنه صلى الله عليه وسلم فعله وجوباً، أو فعله ندباً. وعدم الدليل على كونه فعله وجوباً، لا يدل على عدم كونه كذلك، فلا يتعين الندب.
وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة، فلاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم فعله وجوباً أو ندباً أو إباحة. وعدم الدليل على كونه فعله وجوباً أو ندباً لا يدل على عدم كونه كذلك، فلا تتعيّن الإباحة.
وممن قال بهذا: الفخر الرازيّ، والغزالي.
فالتوقف في ما ظهر فيه قصد القربة بين الوجوب والندب.
والتوقف في ما لم يظهر فيه ذلك القصد، بين الأحكام الثلاثة.
وقيل: الوقف بين الثلاثة، على كل حال (1).
القول المختار في محمل الفعل المجهول الصفة:
الذي نختاره إن ما ظهر فيه قصد القربة يحمل على الندب في حقه صلى الله عليه وسلم وما لم يظهر فيه ذلك يحمل على الإباحة.
أما ما احتجوا به لقول الوجوب، من أنه أحوط، فنترك الرد عليه إلى موضعه الأليق به في المبحث الرابع من هذا الفصل.
وأما الاحتجاج بأن فعل الواجب أعظم أجراً، وأن ذلك أليق بحاله صلى الله عليه وسلم، فهو مردود بما هو معلوم الوقوع من أن أفعاله المندوبة في العبادات أكثر من أفعاله الواجبة، ومثال ذلك الصيام، فكان صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين والخميس، وثلاثاً من كل شهر، ويصوم من رجب وشعبان والحرم وغير ذلك، وكان لا يلتزم بذلك. وهذا يدل على عدم وجوبه، وأن أكثر أفعاله فيما عدا العبادات على الإباحة.
وأما ما احتجّ به الواقفون، فهو حقّ، لأن انتفاء دليل الوجوب في ما ظهر فيه قصد القربة، لا يمنع أنه صلى الله عليه وسلم فعلها في الواقع وحقيقة الأمر على سبيل الوجوب. فلذلك لا يتعيّن الندب.
(1) جمع الجوامع 2/ 99
ولكن نقول: إنما نحمل القربة المجهولة الصّفة على الندب، لأنه لما ثبت لدينا وجوب التأسّي به صلى الله عليه وسلم (كما سيأتي)، وعلمناه قد فعل هذه القربة، فكان لا بدّ لنا من حملها على أحد الحكمين، لنتمكن من التأسّي. ولما كان حمل القربة على الوجوب في حقه يقتضي الوجوب في حقنا، والأصل براءة ذممنا من ذلك، حملناه على الندب، لأنه المتحقق بعد ثبوت الطلب (1).
وكذلك القول فيما فعله صلى الله عليه وسلم، مما لم يظهر فيه قصد القربة، يحمل على الإباحة لأنها المتيقنّة.
تنبيه: يتضح مما تقدم عرضه في هذا المبحث والذي قبله، أنه حيث قال أحد من العلماء في فعل من الأفعال النبوية المجردة إنه يدل على الوجوب في حقنا، فذلك القول له أحد مأخذين.
المأخذ الأول: أن يكون قائله ممن يرى أن الفعل المجرّد يدل على الوجوب في حقنا (القول الثالث) بقطع النظر عن حكمه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم.
المأخذ الثاني: أن يكون قائله من أصحاب القول الأول وهو قول المساواة، مع كونه يعتقد في الفعل أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً، إن كان معلوم الصفة أو يلحقه بالواجب إن كان مجهول الصفة.
ولا يتعين أحد هذين المأخذين بمجرّد نسبة القول بالوجوب إلى قائل معيّن، ما لم تقم قرينة تبيّن مقصوده.
وكذلك القول بالندب يدور بين مأخذين موازيين لمأخذي قول الوجوب.
ومثله أيضاً القول بالإباحة.
وأما قول الوقف فله في الفعل المعلوم الصفة مأخذ واحد، هو احتمال الخصوصية، وفي المجهول الصفة مأخذان: الأول احتمال الخصوصية والمعصية ونحوها. والآخر: عدم تعين الحكم في حقه صلى الله عليه وسلم على قول المساواة.
(1) انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص/ 38