الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموارنة بين المذهبين:
إن المذهبين متفقان في حال العلم بتقدم القول، أو الجهل بالمتقدم، إن القول هو المقدم في الحالين.
وإن ما اختلف فيه المذهبان حالة العلم بتقدم الفعل. فيرى أبو الحسين أنه لا يجوز إهماله، إذ هو نوع من أنواع البيان، وقد جاء في وقت الحاجة إليه، فوجب أن يكون بياناً.
وأصحاب المذهب الأول نظروا إلى أرجحية القول من حيث البيان، ووضوح ارتباطه بالمبيّن. فقدموه.
ونحن نرى أن مآل القولين واحد، فعندما ورد الفعل وهو صالح للبيان، فلا بد من اعتباره بياناً. ثم إذا جاء القول بعد ذلك، فلا بد من الأخذ به، لأنّ "القول بإهمال دلالة القول ممتنع" كما قال الآمدي. فهو يَرِد حينئذ على الفعل فيدل على أن ما زاد منه على القول ندب، أو يلغي دلالته على الحكم في حق الأمة دون نبيها فيكون مخصصاً، أو في حق الجميع فيكون ناسخاً.
فالخلاف بينهم في المسألة إنما هو في مما قبل ورود القول المتأخر، فأمّا بعد وروده فالعمل يكون بالقول على كل حال بالنسبة للأمة، لأنه إما أن يكون هو البيان على القول الأول. أو يكون ناسخاً لحكم الفعل، على القول الثاني. والله أعلم.
الثالث: وفي المسألة قول ثالث، وهو الوقف عند الجهل بالمتقدم، فلا يحكم بكون أحدهما هو البيان دون الآخر، بل البيان أحدهما لا بعينه. لأن كلاً منهما أقوى من الآخر من وجه، فلا يرجح عليه بلا مرجح. وقد رجح هذا القول ابن السمعاني (1).
وقال العلائي في إبطال هذا الدليل: "إن البيان بالقول أكثر، وغاية الأمر
(1) نقله عنه الزركشي: البحر المحيط 2/ 253 أ.
أنهما متساويان في البيان (أي في قوته ووضوحه) وتسلم بقية الأوجه (أي في ترجيح القول) وبهذا يظهر ترجيح القول تقدميه، فلا تعادل حينئذ. والله أعلم" (1) اهـ. كلامه.
وعندي أن جعل دلالة القول أرجح هو الذي ينبغي اعتماده. وبذلك لا يكون القول بالوقف صواباً.
والحاصل: أننا بعد النظر في هذه المسألة وتشعباتها عند الأصوليين، نرى أن المسألة تلتئم بأن يقال: إنه بالنظر إلى الواقع في نفس الأمر، وعند من يعلم ذلك الواقع، لا بدّ من اعتبار أول الواردين من قول أو فعل بعد المجمل، هو البيان له.
وأما بالنسبة إلى العمل وبالنظر لمن لا يعلم الواقع، فيعمل بالقول، ويقال إنه هو البيان، حقيقة إذا تقدم، ومجازاً إذا تأخر. وما زاد من الفعل فهو إما ندب أو خاص أو منسوخ.
وهذا التوفيق صادق على حالتي الاتفاق والاختلاف.
وتكون القاعدة العامة "أنه إذا ورد بعد المجمل قول وفعل كلاهما صالح للبيان، فالبيان في الحقيقة المتقدم منهما، والعمل بالقول على كل حال".
تنبيه: المثال الذي ذكر في هذه المسألة الفعل فيه أكثر من القول. فلو كان العكس، ونقص الفعل، بأن أمَرَ بطوافين، وفَعَل واحداً، فمقتضى القول الأول، وهو قول الرازي ومن معه، البيان القول، ونقْصُ الفعل تخفيف في حقه صلى الله عليه وسلم، تقدم القول أو تأخّر. ومقتضى قول أبي الحسين أن البيان المتقدم، فإن كان المتقدم الفعل، فما زاده القول بعده مطلوب بالقول، وإن كان المتقدم القول فالنقص تخفيف خاص في حقه صلى الله عليه وسلم (2).
(1) تفصيل الإجمال ق 52 ب.
(2)
المحلى: شرح جمع الجوامع 2/ 69