الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1)، وفي رواية: "ليلني منكم الذين يأخذون عني" (2).
ورأى في أصحابه (3) تأخُّراً، فقال:"تقدّموا فأتموا بي وليأتمَّ بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخّرون حتى يؤخّرهم الله"(4).
ومن ذلك أيضاً ما قال السبكي في ترشيح التوشيح عن والده: "إن السر في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع نسوة، أن الله أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يُستحيا من ذكره وما لا يُستحيا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء. فجعل الله له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيا من ذكرها بحضرة الرجال، فيتكمّل نقل الشريعة. وكثر عدد النساء كتكثير الناقلين لهذا النوع. ومنهن عرف غالب مسائل الغسل والحيض والعدّة وغيرها. وأيضاً فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته، من الآيات البيّنات على نبوته"(5) اهـ.
ملاحظة الصحابة للأفعال النبوية من أجل الاقتداء:
كان ما تقدم ذكره داعياً الصحابة رضي الله عنهم إلى ملاحظة الأفعال النبوية الشرعية وتعرف كيفياتها، لأجل الاقتداء بها.
وتفصيل ذلك أن تأثُّر شخص ما بشخص آخر حتى يقلده في فعله وأحواله على درجات:
الدرجة الأولى: إن أي شخصين تخالطا، ورأى أحدهما ما يفعل الآخر، فلا بد أن يتأثر به ولو قليلاً، ما لم يمنع ذلك مانع.
(1) رواه مسلم والأربعة (الفتح الكبير 3/ 72).
(2)
أخرجها الحاكم (الفتح الكبير 3/ 72).
(3)
المقصود كبار أصحابه المتقدمون على غيرهم في الصحبة.
(4)
رواه مسلم وأحمد وأبو داود (الفتح الكبير 2/ 36).
(5)
نقله عبد الحي الكتاني في الترتيبات الإدارية (2/ 236) ومنه نقلنا.
الدرجة الثانية: فإن كان لأحد الشخصين فضل على الآخر، ومزيد منصب ورياسةٍ كان تأثر المفضول والرؤوس بأفعال الفاضل والرئيس أظهر وأبين، حتى إنه كثيراً ما يقلده في هيئة لباسه، وعاداته في كلامه ومشيه وأكله وشربه ونحو ذلك. وقد تقدّم قول الشاطبي:"إن التأسّي في الأفعال والتروك، بالنسبة إلى من يعظّم في دين أو دنيا، كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان". وإلى هذا المعنى يشير المثل القائل "الناس على دين ملوكهم" فهو يعبّر عن هذه الطبيعة البشرية تعبيراً صادقاً. وقد أشار ابن خلدون في المقدمة (ص 147) إلى تعليل ذلك، فليرجع إليه.
الدرجة الثالثة: فإن كان لدى المتأثر مودة للآخر ومحبة وألفة، كان التأثر أعظم. وكلما كانت المحبة أعظم كان التأثر أعظم وأتمّ، حيث إن المحبة تدعو إلى الاتفاق بفعل ما يفعل المحبوب، ومحبة ما يحبه. وقد فصّل القول في ذلك المتكلمون في المحبة (1).
وقد نهى الله تعالى عن تزويج المشركين والتزوّج إليهم، وعلّل ذلك بقوله:{أولئك يدعون إلى النار واللُه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"(3).
وهذه الدرجات الثلاث موجودة في المؤمن بالنسبة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وكانت في الصحابة رضي الله عنهم على أتمّ ما يكون، لكثرة مخالطتهم له، ورؤيتهم فضله عليهم بالفضائل التي حلاّه الله بها، ومنصب النبوة والإمامة الَّذَيْنَ أكرمه الله بهما، والمحبة العظيمة التي خالطت قلوبهم بما شاهدوه من رعاية الله له، وإكرام الله لهم بأن اختارهم لصحبته الكريمة، وللنقل عنه إلى العالمين.
وانضمّ إلى ذلك عندهم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم درجتان أخريان، هما:
الدرجة الرابعة: أن الله تعالى أثنى على {الذين يتبعون الرسول النبيّ
(1) راجع مثلاً: ابن القيم: روضة المحبين. ط دمشق، ص 285 - 287
(2)
سورة البقرة: آية 221
(3)
رواه الترمذي 7/ 49 وقال: حديث حسن صحيح.
الأميّ} وجعل لذلك نصيباً في الحكم عليهم بقوله: {أولئك هم المفلحون} (1).
الدرجة الخامسة: أن الله تعالى جعل من شأن المؤمن الذي يرجو الله واليوم الآخر أنه يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} (2)، وسيأتي القول في دلالة هذه الآية إن شاء الله، في الفصل الرابع من هذا الباب.
أثّر ذلك كله في صحابته رضي الله عنهم حتى كانوا يراعون ما يفعل، وينظرون إليه كيف يفعل. ويتحينون الفرص لذلك لأجل أن يقتدوا به. فهذا زيد بن خالد يقول: "قلت لأرقبن الليلة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما
…
" (3) الحديث.
وعن الفضل بن عباس قال: "بتّ ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يصلي من الليل
…
" (4) الحديث.
وكان أشدَّهم في هذه الناحية، وأدومهم عليها، وأحرصهم على التحري عن أفعاله صلى الله عليه وسلم حتى في أدقّ التفاصيل، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقد حفظت لنا الوثائق الحديثية نماذج كثيرة من ذلك تكشف لنا عن دوافع نفسية عميقة التأثر، بل يكاد يكون هذا المعنى هو مفتاح فقه ابن عمر، والسمة الرئيسية لما ينقل عنه من الآراء التشريعية.
فمن ذلك أنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ثم خرج، يقول ابن عمر:"فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعيم، بين العمودين اليمانيين". قال ابن عمر: "فذهب عني أن أسأله: كم صلّى"(5).
(1) سورة الأعراف: آية 157
(2)
سورة الأحزاب: آية 21
(3)
رواه مسلم (الرصف 1/ 373).
(4)
رواه أبو داود (الرصف 1/ 377).
(5)
رواه البخاري ومسلم (الرصف 1/ 557).