الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا ثبت أنها حُجّة، فإن لم يثبت أنها حجة فليست سنناً، بل تكون كأفعال غيره من الناس.
وفي الاستدلال المذكور نظر من جهة أخرى، فإن السنة الثابتة حجّيّتها بدلالة الكتاب هي السنن القولية، وهي التي ينطبق عليها قوله تعالى:{من يطع الرسول فقد أطاع الله} (1)، وقوله:{وما ينطق عن الهوى} (2) ونحوهما من الآيات التي يستدل بها على حجيّة السنة. تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم في القول ووجوب طاعته فيه، فأما المتابعة في الفعل فلا تقتضيها المعجزة.
وأما قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (3) ونحوها من الآيات، وقوله:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فإن الاتباعَ والتأسّي صادق على طاعة القول قطعاً. وشمول الاتباع والتأسّي للاقتداء بالفعل أمر فيه خفاء، ولذلك فهو بحاجة إلى إثبات. وهو ما يفعله الأصوليون في باب الأفعال.
…
بتدقيق النظر في ما ورد في القرآن العظيم، والسنن القولية، والإجماع، يتبيّن أنها تدل على حجيّة الفعل النبوي. ونحن نذكر ذلك بالترتيب، فنقول:
أولاً: الأدلة القرآنية
استُدِلّ من كتاب الله تعالى على كون أفعال النبي محمد صلى الله عليه وسلم حجة على عباد الله، بآيات ثلاث:
الآية الأولى: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} .
نزلت هذه الآية في شأن غزوة الخندق، في سياق تعداد نعم الله تعالى على
(1) سورة النساء: آية 80
(2)
سورة النجم: آية 3
(3)
سورة آل عمران: آية 31
المؤمنين، بأن أرسل الله على الكافرين {ريحاً وجنوداً لم تروها} . ذكّر الله المؤمنين بأن الكفار جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، حتى ظنّوا باللُه الظنون وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، وأرجف المنافقون والذين في قلوبهم مرض، وبدأوا يتسرّبون من مواقعهم بأعذار كاذبة يريدون الفرار، وانهارت مقاومتهم، لما كانوا عليه من الجبن الخالع، لضعف إيمانهم أو انعدامه. ثم قال تعالى:{يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم} أي لو عاد الأحزاب إلى حصار المدينة، لودّ هؤلاء المنافقون، والمرضى القلوب، لو أنهم في البادية، بعيدين عن موطن القتال، لا يصلهم منه إلا الأخبار.
ثم تأتي الآية التي معنا {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} يحتمل أن الخطاب فيها للمنافقين، تبكيتاً لهم على مواقفهم الدنيئة التي وقفوها، وتذكيراً لهم بما كان ينبغي لهم أن يفعلوه. ويحتمل أن الخطاب فيها للمؤمنين (1) تأييداً لموقفهم وثناءً عليه وتثبيتاً لهم.
والأولى أن يقال: هو خطاب للمجموعة كلها مؤمنها ومنافقها. وتعني الآية أن الله رضي من عباده المؤمنين الصبر في مواطن البلاء، تأسّياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكره من المنافقين عدم تأسّيهم به صلى الله عليه وسلم في ذلك.
إلاّ أن لفظ (الأسوة) مما ينظر فيه.
فمادة (أس و) تكون بمعنى مداواة الجراح. تقول العرب: أسوت الجرح، وفي كلامهم: الآسي وهو الطبيب، والآسية الخاتنة، والإساء الدواء.
وتكون بمعنى المساواة، وفي كتاب عمر إلى أبي موسى:"آس بين الناس" أي ساو بينهم.
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/ 156
أما (الأسوة) فقد وردت في اللغة لمعنيين:
الأول: ما يتسلى به الحزين عن مصابه، والمهموم عن همّه.
والثاني: المماثلة. تقول: جعلته في مالي أُسوة، أي قسمتُ مالي بيني وبينه نصفين، حتى صار مثلي فيه. ومنه جاءت الأسوة بمعنى القُدوة.
وبين المعنيين صلة واضحة، فإن المحزون يتسلّى بأن يقول لنفسه: قد أصاب فلاناً مثل ما أصابني، فعليّ أن أصبر كما صبر.
ويحتمل أن الأسوة التي بمعنى التسلّي عن المصاب، من (الإسا) الذي بمعنى الدواء والمعالجة، إذ إن المصيبة كالجراح، والسلوّ دواؤها.
و (الأسوة) في الآية، لأول وهلة، يبدو أنها محتملة للمعنيين جميعاً. يقول القرطبي:"قوله تعالى {أسوة} الأسوة: القدوة، والأسوة: ما يُتأسى به، أي يتعزّى به، فيقتدى به في جميع أفعاله، ويُتَعَرَّى به في جميع أحواله، فقد شُجَّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه (1)، وقُتل عمه حمزة، وجاع بطنه، ولم يُلْفَ إلاّ صابراً محتسباً وشاكراً راضياً".
ولكن إن نحن جعلنا (الأسوة) في الآية بمعنى ما يتصبّر به الحزين، لم تكن الآية حجة في الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، لأن لنا أسوَةً بكل صابر.
وإن جعلناه بمعنى القدوة، فهي حجة على المطلوب، وهو قول جمهور الأصوليين. وهو الصواب، كما نبيّنه بعد.
وقد أورد بعضهم على الاحتجاج بهذه الآية، أنها وردت في أمر خاص هو الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الصبر في الحرب، وليس لفظ {أسوة} في الآية من ألفاظ العموم حتى يقتدى به في غير هذا الفعل.
قالوا: وحتى لو قلنا إنها ليست خاصة بما ذكر في السياق، فلا يجوز القول
(1) الرباعية، إحدى الأسنان الأربع التي تلي الثنايا، بين الثنية والناب (اللسان).
بأنها عامة في كل فعل، بل هي مطلقة. وتتحقق الآية فيمن اقتدى به صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور دون غيرها (1).
وقد أجاب الآمدي (2) بأن تعيين المتأسّي فيه ممتنع، لعدم دلالة اللفظ عليه. والقول بإبهام المتأسّي فيه ممتنع لأنه على خلاف الغالب من خطاب الشرع، فلم يبق إلاّ العموم.
وهذا الجواب متهافت كما لا يخفى. إذ القول بتعيّنه في ما فيه السياق ممكن ومقبول، كما قال ابن دقيق العيد:"إن السياق طريقٌ لتخصيص العمومات وبيان المحتملات"(3).
وجواب أبي الحسين البصري (4) أصحّ، وهو أنه لا يطلق في اللغة على الإنسان أنه أسوة لزيد إذا كان إنما ينبغي لزيد أن يتبعه في فعل واحد، وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد، يهتدي به في أموره كلّها. إلا ما خصّه الدليل.
ومما يؤكد العموم أيضاً ما ورد في الحديث، مما يدلّ على الصواب من تفسير الآية، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فناموا حتى فاتتهم صلاة الفجر. فصلاّها بهم، وذلك بعد ارتفاع الشمس. فتهامس بعضهم إلى بعض "ما كفارة ما صنعنا اليوم؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما لكم فيّ أسوة؟ "(5) وذلك أنه اكتفى بقضاء الصلاة. وكانت تلك كفارة ما حصل منهم. وهذا حكم شرعي حاصل بالاقتداء بالفعل.
(1) تبنى هذه الشبهة الرازي في المحصول (ق 52 أ)
(2)
الأحكام 2/ 268
(3)
يرى ابن دقيق العيد أن السياق أحد مخصصات العموم، ومبينات المراد بالمجملات. انظر كتابه: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2/ 19، 232، وفرق بين ذلك وبين قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وبين أن الأصوليين لم يذكروا قاعدة التخصيص بالسياق، إلا بعض المتأخرين ممن أدرك هو أصحابهم.
(4)
المعتمد 3/ 384
(5)
رواه مسلم 5/ 186
وسيأتي في الاستدلال بالإجماع، ما يدلّ على أن الصحابة كانوا يحتجون بكونه صلى الله عليه وسلم أسوة، على أحكام شرعية مأخوذة من الأفعال. فهذا يفسّر معنى الأسوة في الآية.
وقال الصنعاني: "أما ما قيل من أن {أسوة} نكرة في الإثبات لا عموم لها، وإنما هي خاصة في ما نزلت فيه، فغير صحيح، لأن قوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} هو في المعنى جواب لقوله: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}. وهو شرط (1)، والشرط من ألفاظ العموم"(2). اهـ.
وحتى لو قلنا بأنّ الأسوة هي القدوة في أمور معينة دون غيرها، فقد ثبت مطلوبنا هنا وهو أن الأفعال النبوية، من حيث الجملة، حجة في الشريعة، لأن قولنا:"من حيث الجملة" نعني به: "في بعضها دون بعض".
وسيأتي في الفصل التالي تمييز ما هو منها حجة، مما لا يحتج به.
الآية الثانية: قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وشبيه بها قوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ
…
} إلى قوله: {
…
واتبعوه لعلكم تهتدون} (3).
فقد أمرنا الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم. والاتباع في اللغة أن يسير الإنسان خلف آخر. والمراد هنا أن نتخذه صلى الله عليه وسلم رئيساً وقائداً إلى أعمال الخير والبر نهتدي بهديه.
والاتّباع يكون في الأقوال والأفعال.
فمن استعمال الاتباع في طاعة الأقوال، قوله تعالى:{اتبع ما أوحي إليك من ربك} (4)، وقوله:{الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (5).
(1) هداية العقول.
(2)
أي في المعنى. أما في اللفظ فـ (من) موصول. والمعنى (من كان يرجو الله واليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة).
(3)
سورة الأعراف: آية 157، 158
(4)
سورة الأنعام: آية 106
(5)
سورة الزمر: آية 18
ومن اتباع الأفعال قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} (1)، وقوله:{وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض} (2).
وقد أورد بعضهم على الاحتجاج بالآيات المذكورة، أنها ليست عامة، بل مطلقة، والمطلق يتحقق في ضمن فرد من أفراده، فربما كان المراد اتباعه في القول خاصة.
وأجاب أبو الحسن البصري، بأن الإطلاق يقتضي صحة الاتّباع في كل ما يصدق عليه. قال:"إن إطلاق قوله {واتبعوه} وإن لم يفد العموم، فإنه يفيد أن لنا اتباعه في أفعاله لأن ذلك اتباع له، والخطاب مطلق"(3).
ويرى القاضي عبد الجبار: "أن الاتباع إذا أطلق انصرف إلى اتباع الأفعال، كاتباع الإمام، أما طاعة الأقوال فتسمى "امتثالاً"، ولا تسمّى "اتباعاً" إلاّ مقيّداً"(4).
الآية الثالثة: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطراً} (5) قال المستدلون بها: "لولا أن اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما يفعله يفيد الحكم الشرعي في حق الأمة، لما كان للآية معنى، لأن معناها: أنه ينتفي عنهم الحرج في نكاح مطلقات أدعيائهم، بكونه صلى الله عليه وسلم تزوّج مطلقة دعيه، وهذا لا يتمّ ما لم يكن متقرراً أن أفعاله حجة"(6).
وقد اعترض على الاستدلال بالآية بأنها واردة في متابعته صلى الله عليه وسلم في تزوّج مطلقات الأدعياء، وليس فيها ما يدل على التأسّي في غير ذلك من الأفعال.
(1) سورة الطور: آية 21
(2)
سورة البقرة: آية 135
(3)
المعتمد 1/ 384
(4)
المغني 17/ 260، 261
(5)
سورة الأحزاب: آية 37
(6)
انظر الآمدي 1/ 266 - 268، أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 384، ابن تيمية مجموع الفتاوى الكبرى 15/ 443
وأجيب عن ذلك بأنه ليس فيها دلالة على خصوص متابعة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولولا أن التأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في ما يصنعه قاعدة شرعية عامة، لما فهم الصحابة رضي الله عنهم الحكم في ذلك في حقهم.
ولذلك قال الآمدي: وهذا من أقوى ما يستدل به ها هنا.
وعندي في الاستدلال بهذه الآية نظر. فإن إباحة التزويج كانت معلومة منذ نزل تحريم التبني، وبيان فساد ما سبق وقوعه منه، في قوله تعالى:{وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم .. } إلى قوله: { .. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} (1) مع قوله تعالى في المحرمات {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} . وإلغاء نظام التبني إلغاء لكل ما ترتب عليه، ومن ذلك ما كانوا يعتقدونه من تحريم مطلقات الأدعياء.
إذن ليس الغرض من تزويجه صلى الله عليه وسلم بزينب الإعلام بالحكم، فإن العلم به حاصل من قبل.
ولكن العادات لها سلطان قويّ على النفوس، ويصعب مخالفتها، ويجد الإنسان في ذلك حرجاً كبيراً. وكم من لباس مباح نافع للناس، يمتنع الإنسان من لبسه، وهو يعلم أنه حلال، لمجرد أنه يجد الحرج في ذلك، لعدم جريان العادة بلبسه في بيئته. وكذلك في المناكح والعلاقات الاجتماعية وغيرها. والروّاد هم الذين لا يبالون بذلك الحرج، فيفعلون الحسن لحسنه، وبذلك يكوّنون عادات جديدة نافعة، ويوجدون قبولاً لها في بيئتهم، وبذلك يفتحون المجال أمام غيرهم لينتفعوا بتلك العادات الجديدة. وهذا عين ما تشير إليه الآية (2).
(1) سورة الأحزاب: آية 4
(2)
لم أجد أحداً من المتقدمين أشار إلى هذا المعنى. ثم وجدت الأستاذ الفاضل محمد مصطفى شلبي ذكره، وأكد لي ما فهمته، حيث قال في كتابه "تعليل الأحكام" ص 17 ما نصه (أمر الله رسوله الكريم بزواجها، معللاً هذا الحكم بدفع الحرج والضيق عن المؤمنين في إقدامهم على ذلك الفعل. وكيف لا يكون حرج وقد كانت عادة التبني في الجاهلية فاشية =