الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنه، في سياق وصفه لحجة الوداع، عندما قال: "أذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس (بالحج) في السنة العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجّ. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله
…
، ورسول الله بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به" الحديث (1).
والذي قد يورد على هذا الأصل أنه صلى الله عليه وسلم قد يفعل باجتهاد، ويخطىء، في ذلك الاجتهاد كما تقدم.
إلاّ أن الجواب عن هذا الإيراد واضح وهو أن الله تعالى لا يقرّ رسوله على خطأ في الاجتهاد.
المطلب الثالث أنه صلى الله عليه وسلم يريد بفعله موافقة الحكم الشرعي في حقه
والذي قد يورد على هذا شبه أربع:
الشبهة الأولى: أن يقال: قد أجاز بعض الأصوليين صدور المعصية عنه صلى الله عليه وسلم عمداً إذا كانت صغيرة (2)، مع احتمال أن لا ينزل تصحيح لذلك، كما تقدم. فلو استفدنا الحكم من فعله لزم الاقتداء به في ما هو محرم.
والجواب من وجهين:
1 -
أن يقال: إن من أجاز ذلك أجازه على سبيل الندرة، والنادر لا يلغي
(1) حديث جابر في حجة الوداع: رواه مسلم 2/ 886
(2)
أورد هذا أبو المعالي الجويني على قول من جوز تعمد الصغيرة على الأنبياء. انظر المحقق لأبي شامة ق 15 وأورده التميمي الحنبلي وجعله مؤيداً لقول الوقف في الفعل المجرد. انظر التمهيد لأبي الخطاب: ق 90 ب.
القانون العام الذي ثبت بالأدلة المتقدمة. بل الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أنه يريد بها الموافقة. وهذا جواب المازري، وأقرّه أبو شامة، وقرّره الآمدي (1).
2 -
أن يقال: من أجاز صدور الصغيرة عنه صلى الله عليه وسلم إنما أجازها فيما لا ينبني عليه تشريع، فإذا انبنى عليها تشريع امتنعت عند قوم (2)، ولزم التنبيه عند آخرين، كما تقدم، لئلا يستقر في الشريعة ما هو مخالف لأحكام الله، إذ الشريعة معصومة بالإجماع.
هذا وقد تتقوى هذه الشبهة بتدخل عنصر معيّن، وهو أن الله تعالى أمدَّ رسوله صلى الله عليه وسلم، جزاء صبره على تكاليف الدعوة إلى أن فتح عليه، أمدّه بمغفرة سابقة لما قد يقع منه من المخالفات. قال تعالى في أول سورة الفتح:{إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} فقد يُظَن أن ذلك مما يدعوه صلى الله عليه وسلم إلى الاسترسال وعدم التحرّج، اعتماداً على المغفرة السابقة.
وقد عرضت هذه الشبهة في الأفعال النبوية لبعض الصحابة.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعْلَمكلم بما أتقي"(3)، وفي رواية أبي داود:"وأعلمكم بما أتّبع". وفي مسند أحمد: "وأعلمكم بحدوده ". وفي رواية: "وأحفظكم لحدوده".
(1) الإحكام 1/ 250
(2)
منهم أبو عبد الله البصري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر كتابه: المغني 15/ 288 حيث يقول: "لم يثبت أن لا فعل إلا ويجب التأسي فيه، وإنما يجوز ذلك على وجه التأويل، وما هذا حاله لا تجوز فيه المعصية، وإنما يجوز ذلك على وجه التأويل فيما لا يتعلق بالشرائع". ونقل مثل ذلك عن أو عبد الله (البصري) 15/ 287
(3)
صحيح مسلم، ط عبد الباقي 2/ 781
والحديث في الموطأ أيضاً.
فلعلّ الذي خطر ببال الصحابي السائل أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم على الجنابة أثناء الصوم يحتمل أن يكون معصية، وقد أقدم عليها اعتماداً على المغفرة السابقة.
وربما كان ما خطر بباله أنه صلى الله عليه وسلم لم يهتمّ بتعرّف الحكم في المسألة، اعتماداً على المغفرة المشار إليها.
وكان جوابه صلى الله عليه وسلم مبطلاً لكلا الاحتمالين:
فقوله: "إني أخشاكم لله" ردّ للاحتمال الأول. وهو إشارة إلى أن المغفرة لم تمنع كمال الخشية، لعلمه صلى الله عليه وسلم بجلال ربّه وعظمته.
وقوله: "وأعلمكم بما أتقي"، ردّ للاحتمال الثاني، إذ هو صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بمرادات ربه في الوحي المنزّل إليه. وقد أشرنا إلى ردّ هذا الاحتمال في المطلب الثاني المتقدم.
الشبهة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه لبيان الجواز، كما تقدم. فما يؤمّننا أن يكون الفعل الذي نراه مفيداً للإباحة، هو في الأصل مكروه وقد فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، فتكون استفادتنا للحكم خطأ.
ويجاب عن هذا بأنه لا بد أن تتبين كراهته إما بنهي عنه في موضع آخر، أو بالقرائن.
الشبهة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعامل الناس بما يتألفهم ولا ينفرهم، وقد قال الله تعالى له:{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (1).
فما يؤمّننا أن يكون الفعل الذي نريد أن نقتدي به فيه مكروهاً أو محرماً عليه في الأصل، ولكن أبيح له فعله للمصلحة الراجحة من تأليف القلوب، وحسن السياسة، والتوصّل إلى ما هو أهم وأعظم.
(1) سورة آل عمران: آية 159
والقاعدة المقررة عند الفقهاء "جواز ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما" والقاعدة الأخرى "احتمال المفسدة المرجوحة لتحصيل المصلحة الراجحة" ولم تزل هاتان القاعدتان دستور الساسة المهرة في كل العصور، وقد اتفقت على صحتهما الأمم.
وقد قال الله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (1).
وأباح الله تعالى النطق بكلمة الكفر للتخلّص من الأذى، إذا اطمأن القلب بالإيمان.
وقال ابن حجر: روينا في مسند الروياني وغيره بإسناد صحيح عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف ترى جُعيْلاً؟ " قال: كشكله من الناس، يعني المهاجرين. قال:"فكيف ترى فلاناً؟ " قال: سيد من سادات الناس. قال: "فجعيل خير من ملء الأرض من فلان". قال: قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع؟ قال: "إنه رأس قومه فأنا أتألفهم به"(2).
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرّم ذلك الرجل تألُّفاً لقومه دون أن يكون أهلًا للكرامة لذاته.
وقد أجاب القاضي عبد الجبار بمنع جواز التُّقْيَة للرسول، في ما أمر بأدائه، يقول:"ولو كانت مجوّزة لم تعظم رتبة النبي، لأنها إنما تعظم لأنه يتكفّل بأداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونه"(3).
والمعتمد في الجواب أن يقال: إن المهمّة الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت البيان عن الله تعالى. فحيث كانت السياسة لا تتعارض مع البيان، فلا إشكال، كأن يقدّم بعض المباح ويؤخّر بعضه. ومنه عندي حديث جعيل، المتقدم.
(1) سورة آل عمران: آية 28
(2)
فتح الباري 1/ 80
(3)
المغني 15/ 284
وحيث تعارضا، فإن كان هناك قرائن تبيِّن أنه صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل، على سبيل السياسة، فالأمر واضح، وإيس منهلاّ امتنع أن يكون فعله له مكروهاً أو محرماً، لأنه يؤدي إلى أن يستقر في الشريعة ما ليس منها. والله أعلم.
الشبهة الرابعة: أنه صلى الله عليه وسلم قد يكون له عذر فيما فعل، أي أن يكون فعل الفعل على سبيل الرخصة، كأن يكون أفطر في رمضان، ويكون إفطاره لأجل مرض خفيّ.
ومثاله أيضاً: أن يكون قد صلّى في ملابسَ دونٍ، لقلة الملابس اللائقة بجلال الصلاة، فمن اقتدى به صلى الله عليه وسلم في ترك الملابس الفاخرة في الصلاة، كان ذلك خطأ.
ومثاله أيضاً: مما ورد في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الإنفاق حتى لا يبقي شيئاً. ويتقشف في معيشته. يحتمل أن يكون ذلك للحاجات والضرورات الواقعة في المجتمع الإسلامي مما لا بدّ من الوفاء به. فإن اقتدي به في ذلك في السعة كان خطأ.
ونظير ذلك في الإقرار ما ورد عن أبيّ بن كعب أنه قال: الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعاب علينا، فقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان في الثياب قلة، فأما إذ وسّع الله فالصلاة في الثوبين أزكى (1).
ومن هنا وقع الخلاف في المنيّ، ففي حديث عائشة أنها كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه (2). قال الشافعية والحنابلة: ذاك دليل طهارته. وقال الحنفية: هو نجس، ويجزئ فرك يابسه.
ومثاله أيضاً: تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بالدنانير الذهبية، والدراهم الكسروية، وإقراره التعامل بها، مع ما عليها من صور القياصرة، ومعابد النيران. يحتمل أن
(1) أحمد في المسند 5/ 141
(2)
رواه مسلم 3/ 196