الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالشفعة للجار. وقد اختلف فيها على قولين، وسوف نبيّن مبنى الخلاف فيها في الباب التالي في الفصل الثالث منه إن شاء الله.
الأول: أنها عبارة عن فعل صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا لا يصح فيها دعوى العموم، كما قدّمناه في سائر الفعل المثبت.
الثاني: وهو الأصوب، أنها عبارة عن قول صدر منه صلى الله عليه وسلم. فإن الراوي سمع لفظاً هو: آمركم بكذا، أو: افعلوا كذا، أو: أنهاكم عن كذا، أو: لا تفعلوا كذا، أو نحو ذلك. فعبّر عنه بما ذكر. وقد اختلف فيها القائلون بذلك: هل يجوز أن تدل على عموم أم لا. وعلى هذا المذهب يكون هذا النوع خارجاً عن باب الأفعال النبوية، فلا نستطرد إليه. فليرجع إليه في مظانه من كتب الأصول (1)، في مباحث الأقوال.
المسألة الثانية:
(كان يفعل) والمراد به الفعل المضارع الذي دخلت عليه كان إذا عبّر به الصحابي عن شيء من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هي دالّة على مجرد وقوع الفعل، أم على التكرار والمواظبة، وهل تدل على العموم؟.
1 - التكرار:
أما دلالتها على التكرار، فذلك واضح لا خفاء به، وقال ابن دقيق العيد:"يقال: كان يفعل كذا، بمعنى أنه تكرر منه فعله وكان عادة له، كما يقال: كان فلان يقري الضيف"(2).
وقد اختلف الأصوليون من أين جاءت الدلالة على التكرار: فقيل من (كان)، وهو ظاهر كلام الشاطبي (3). إذ أورد حديث عائشة:"كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس في حجرتها"(4). ثم قال: لفظ (كان) فعل يقتضي الكثرة". وبه قال ابن الحاجب (5).
(1) انظر مثلاً: إرشاد الفحول للشوكاني ص 125، الزركشي: البحر المحيط: 2/ 60
(2)
أحكام الإحكام 1/ 90
(3)
الموافقات 3/ 59
(4)
البخاري 2/ 6 ومسلم 5/ 108
(5)
وقد ذكرت فيه الأقوال الثلاثة جميعاً.
وقيل من مجموع كان والفعل المضارع. وهو ظاهر كلام المحلي (1). ونقله صاحب تيسير التحرير.
وقيل من الفعل المضارع وحده. وهذا عندي هو الصحيح من هذه الأقوال، وما عداه وهم من هؤلاء الأعلام رحمة الله عليهم، وجلّ من لا يستدرك عليه قول. فإن المضارع وحده يدل على التكرار والعادة المستمرة، كقولهم فلان يقري الضيف، وينفق ماله في أبواب الخير. وقد يدلّ على المرة الواحدة لكن بشرط استمراره برهة قبل زمن التكلم حتى وقت التكلم. فإذا جاءت (كان) قبل المضارع نقلت معنى التكرار من الحاضر إلى الماضي، ولم تزد على ذلك، فمن أين جاءت بالتكرار؟ (2).
وأيضاً: لو أنها دلّت على التكرار مع المضارع لدلّت عليه مع الفعل الماضي، لكنها لم تدلّ عليه، كما في قوله تعالى:{ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار} لا يعني أنهم عاهدوه أكثر من مرة.
هذا وإن فائدة معرفة دلالتها على التكرار في أحكام الأفعال النبوية أمر مهم، نظراً إلى أن الفعل المجرّد إذا تكرر على صفة واحدة، وكان ذا صلة بالعبادة، فإنه يقرّب أن الفعل المجرّد على وجه الشرع، فيصلح دليلاً على الاستحباب أو على تأكد الاستحباب. وقد تقدمت الإشارة إليه في مواضع من هذا الباب.
وقد ذكر ابن دقيق العيد أنه يجوز أن تستعمل (كان يفعل) لإفادة مجرّد وقوع الفعل، وذلك صادق بالمرة الواحدة، فلا يدل على التكرار. ولكنه يقول: الأول - وهو إفادة التكرار- أكثر في الاستعمال (3).
(1) شرح جمع الجوامع 1/ 425
(2)
(كان) الناقصة، خالية من الدلالة على الحدث، ومتمحضة للدلالة على الزمان، وهذا معنى نقصها. وهي تقلب معنى الجملة الاسمية إلى الماضي. فإن قلت:(زيد كريم) ثم دخلت عليها (كان) حولت معنى الجملة من الحاضر إلى الماضي.
(3)
أحكام الإحكام 1/ 90
وأشار إلى ذلك أيضاً صاحب تيسير التحرير، فإنه قال: إن إفادة (كان يفعل) التكرار أكثرية لا كلية.
وعندي أن إفادة (كان يفعل) للمرة الواحدة، حق، ولكن في بعض الواقع دون بعض. فإنا قد ذكرنا أن المضارع المجرّد من (كان) قد يدل على المرة إن كان الفعل مستمراً إلى زمن التكلم، فإذا دخلت عليه (كان) أفادت ذلك الاستمرار في الزمن الماضي إلى لحظة معينة من الماضي. ومثاله أن تقول (الخطيب يتكلم الآن على المنبر) فإذا أردت نقل ذلك إلى الماضي مع استمرار الفعل إلى وقت معين، تقول مثلًا:"دخلت المسجد وكان الخطيب يتكلم".
فهذا استعمال آخر غير الاستعمال الأول، ولكل منهما موضعه، ولا يتوارد الاستعمالان على موضع واحد.
وعلامة هذا النوع أن يذكر أمر كالدخول في المثال السابق، ويكون الفعل سابقاً له مستمراً إليه. فما عدا هذا النوع تكون دلالته على التكرار كلية لا أكثرية فقط.
فهذا توضيح لما في كلام ابن دقيق العيد من الإجمال.
ومن هذا يتبيّن أيضاً أن بعض المؤلفين (1) في الحديث النبويّ يخطئون حين ينقلون الحديث الفعلي بعبارة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا أو يقول كذا) من أصل ليس فيه إلا (فَعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا)، لما بين العبارتين من الفرق في المعنى، وقد علم أن من شرط الرواية بالمعنى التساوي بين اللفظين في معنييهما.
(1) انظر مثلًا كتاب "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" ط 7 ص 126 الحديث: كان أحياناً يرجع صوته كما فعل يوم فتح مكة، ص 76:"وكان يقول: إنما الأعمال بالنيات، ص 77" كان إذا مرض رفع أبو بكر صوته بالتكبير حتى يسمع من خلفه، وليس شيء من ذلك في الأصول، إنما فيها (رجع)، (قال)(رفع) بدون كان.