الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني الاعتراضات التي تورد على الاحتجاج بالأفعال
عقد ابن عقيل الحنبلي (1) في ذلك فصلاً ممتعاً. فذكر فيه ثمانية اعتراضات تتوجه على الاستدلال بالفعل. ونحن نذكرها بإيجاز ملخصة من كلامه مع مزيد توضيح:
الاعتراض الأول: أن يبيّن أن المستدلّ لا يقول به. ومثاله أن يستدل الحنفي في قتل المسلم بالكافر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بكافر وقال: "أنا أحق من وفى بذمته"(2). فيقول الشافعي أو الحنبلي: هذا لا تقول به، فإن الذي قتله به كان رسولاً. ولا يقتل مسلم بالرسول عند أبي حنيفة.
قال ابن عقيل: وقد تكلّف بعض أصحاب أبي حنيفة الجواب عن ذلك، فقال: لما قتل المسلم بالرسول كان ذلك دالاً على قتل المسلم بالذميّ من طريق الأولى، فنسخ قتل المسلم بالرسول، وبقي الذميّ على مقتضاه الأول.
الاعتراض الثاني: المنازعة في مقتضى الفعل. ومثاله أن يستدل الشافعي أو الحنبلي على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود بفعله صلى الله عليه وسلم. فيقول المخالف: فعله لا يقتضي الوجوب. والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن يقول: فعله عندي يقتضي الوجوب، وإن لم تسلم دللت عليه.
الثاني: أن يقول: هذا بيان لمجمل واجب في القرآن، فيدل على كونه واجباً.
(1) انظر كتابه (الواضح) ق 157 ب وما بعدها.
(2)
الحديث نقله في بدائع الصنائع 6/ 337 معزواً إلى محمد بن الحسن بإسناده.
الثالث: أن يقول: قد اقترن به ما يدل على وجوبه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي".
أقول: في الوجه الأول والوجه الثالث نظر عندنا بالنسبة إلى هذا المثال خاصة يعلم مما تقدم.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض أيضاً بأن يقال: هذا الفعل صدر من النبي صلى الله عليه وسلم واجباً، وحكمنا فيه كحكمه.
الاعتراض الثالث: دعوى الإجمال في الفعل. ومثاله أن يستدل الشافعي على طهارة المني بأن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي". فلو كان نجساً لقطع الصلاة. فيقول المعترض: هذا مجمل، لأنه في قضية عين فيحتمل أنه كان كثيراً أو قليلاً، فربما كان ما فركته عائشة قليلاً، وقليل النجاسات معفو عنه.
والجواب عنه يكون بأن يبيّن المستدل أن الفعل متعيّن في الوجه الذي وقع به الاستدلال. ففي المثال المتقدم يبين بالدليل أن المني كان كثيراً، لأن عائشة احتجت بهذا الخبر على طهارته، فلا يجوز أن تحتج بما يعفى عنه مع نجاسته. ولأنها أخبرت عن دوام الفعل وتكرره، ويبعد أن يستوى حاله في القلة مع تكرره.
الاعتراض الرابع: المشاركة في الدليل. ومثاله أن يستدل الحنفي في جواز ترك قسمة الأراضي المغنومة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قسمة بعض أراضي خيبر. فيقول الشافعي والحنبلي: هذا حجة على قسمته، لأنه قسم بعضه، وفعله هذا امتثال للآية، وذلك يقتضي الوجوب. وأما تركه لما تركه فربما كان لنوائبه ومهمات الإسلام.
الاعتراض الخامس: اختلاف الرواية. وذلك مثل أن يستدل الحنفي على جواز نكاح المُحْرِم بما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم. فيقول الشافعي أو الحنبلي: روي أنه تزوجها وهما حلالان.
والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن يجمع بين الروايتين إن إمكنه. والثاني: أن يرجّح روايته على رواية المخالف.
الاعتراض السادس: دعوى النسخ. مثل أن يستدل الحنفي على أن سجود السهو بعد السلام، بما روي (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم، سجد بعد السلام. فيقول الشافعي: هذا منسوخ بما روى الزهري، قال: آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، السجود قبل السلام (2).
وجوابه بالجمع بين الأمرين إذا أمكن، فإن الجمع مقدم على النسخ.
الاعتراض السابع: التأويل. مثل أن يستدل الحنفيّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم، تزوّج ميمونة وهو محرم، فيتأوله الشافعي والحنبلي بأن المراد بالإحرام هنا أنه في الحرم أو في الشهر الحرام لا إحرام الحج والعمرة، فإن الصيغة قابلة لذلك، ومنه قولهم: أتْهم، وأنجد، وأصبح، لمن دخل في تهامة، أو نجد، أو الصبح. وقد قال الشاعر في قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة:
قتلوا ابن عفانَ الخليفةَ مُحرِماً
…
ودعا، فلم أرَ مثله مخذولاً
والجواب أن يتكلم الحنفي على دليل التأويل بما يسقطه، فيسلم له الظاهر.
الاعتراض الثامن: المعارضة: ومثاله أن يستدل الشافعي في رفع اليدين برواية أبي حميد الساعدي (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حذو منكبيه. فيعارضه الحنفيّ بما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم، رفع يديه حيال أذنيه (4).
وجوابه بأن يرجح دليله على دليل المعترض، بما يعلم في باب الترجيح من أصول الفقه. أو يتكلم على رواية المعترض بوجه من الوجوه السابق ذكرها في هذا المبحث.
(1) انظر: جامع الأصول 6/ 350
(2)
انظر: جامع الأصول 6/ 350
(3)
رواها أبو داود والترمذي، والنسائي (جامع الأصول 6/ 209)
(4)
رواها مسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 6/ 209)