الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين الفعل البياني والفعل الامتثالي:
البيان يكون لغة بمعنى (الإظهار) ويكون بمعنى (الظهور) والبيان في مصطلح الأصوليين اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه: إنه بمعنى (تبيين الحكم)، أو بمعنى (دليل الحكم)، أو بمعنى (العلم بالحكم الحاصل عن الدليل)(1). واختار البزدوي أنه بمعنى (التبيين)، وهو الذي نعتمده في هذا المبحث. فالبيان هو القول أو الفعل الصادر عن المبيّن بقصد إظهار المراد بالمجمل ونحوه.
وعلى هذا فالفعل البياني هو الفعل الذي قصد به النبي صلى الله عليه وسلم بيان مشكل في الأحكام الشرعية.
أما ما فعله صلى الله عليه وسلم لا بقصد التبيين، وإنما لمجرد أن الله أمره أن يفعل ففعل، على حدّ ما يفعل غيره من المكلفين، فذلك هو الفعل الامتثالي.
وليس المراد القصد العام لبيان الشريعة ككل. فإن هذا القصد كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته بعد البعثة.
وإنما المراد القصد الخاص، بان يريد أن هذا الفعل المعيّن هو بيان لهذا المشكل المعين.
ما يعرف به الفعل البياني:
أنكر المروزيّ الشافعي، والكرخي الحنفي، جواز البيان بالفعل. والجمهور على جوازه. وقد تقدم ذكر ذلك.
واختلف الجمهور القائلون بجوازه، في أن الفعل هل يكون بياناً بنفسه؟.
(1) قال البزدوي: "المراد بالبيان في هذا الباب عندنا الإظهار دون الظهور" وقال البخاري "وعند بعض أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي معناه ظهور المراد للمخاطب".
وانظر أيضاً: المستصفى 1/ 153 والبحر المحيط 2/ 181 وبيان النصوص التشريعية ص 23 - 25
فالأكثرون على أن الفعل لا يكون بياناً، إلاّ بقرينة تدلّ على أنه بيان (1).
والقرينة التي تبيّن أن الفعل الواقع هو بيان، اشترط صاحب (الكبريت الأحمر) أن تكون قولَاً، ورأى أن غير القول لا يقوم مقامه ما لم يتكرر الفعل (2)[على صفة واحدة].
وقد حصر صاحب المحصول القرائن في ثلاثة: أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، أو بالقول، أو بالدليل العقلي، بأن يذكر الممُجْمل وقت الحاجة إلى العمل به ثم يفعل فعلاً يصلح أن يكون بياناً. وقال: لا يحصل البيان إلاّ بأحد هذه الأمور الثلاثة (3).
وغيره جعل كل ما فيه دلالة بياناً، وجعل أيّ قرينة تدل على ذلك دالّة على كونه بياناً. فذكر الغزاليّ في المستصفى سبع طرق، وذكر أبو شامة ثمانياً (4). ونحن نورد منها هنا ما يتعلق بهذا الموضوع ونترك باقيها إلى مواضع هي بها أليق.
وعندي أن مبنى اختلافهم قي هذا هو اختلافهم في ما يعبّرون عنه بـ (البيان) فمن رأى أن البيان هو (الدليل) أو العلم الحاصل عنه جعل كل ما يستدل به من الأفعال بياناً. ومن جعل (البيان) هو (التبيين)، أي فعل المبين، فقد حصر طرق معرفة الفعل البياني في ما يدل على قصد الإظهار (5).
وهذا هو الذي نعتمده في هذا المبحث، لأنا قد خصصناه بـ (الفعل البياني)، وجعلنا للفعل الامتثالي مبحثاً خاصاً، وبيَّنَّا أنه يستدل به أيضاً.
(1) الزركشي: البحر المحيط 1/ 2 ونقله عن المازري.
(2)
الزركشي: البحر المحيط 2/ 181 أ.
(3)
وأبو الحسين البصري لم يذكر غير الثلاثة. المعتمد 381، 386
(4)
المحقق ق 35 ب
(5)
انظر الخلاف في ذلك في أصول البزدوي 3/ 824 - 826 والمستصفى 1/ 153 والبحر المحيط 2/ 181 وبيان النصوص التشريعية ص 23 - 25 وغيرها.
أما من جعل كلَّ فعل يستدل به في الأحكام بياناً، فلا يستقيم له أن يذكر في أقسام الفعل، البيانيَّ والامتثاليَّ كليهما معاً.
وبناء على ما اعتمدناه، فإن الأفعال الواقعة من النبي صلى الله عليه وسلم يستدل على أنها بيان بطرق مختلفة:
الطريق الأولى: القول الصريح، بأن يقول صلى الله عليه وسلم: ما فعلته، أو: ما سأفعله، هو بيان لكذا. وهذه أعلى الطرق. ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر لما أراد أن يعلمه التيمم:"إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، ثم ضرب بيده إلى الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه"(1).
فمسح الكفّين يبيّن به الإشكال في المراد باليد في آية التيمم.
والبيان هنا هو الفعل، وليس القول هو البيان.
والذين قالوا: لا يكون البيان بالفعل، قالوا: القول هنا هو البيان.
وقال في تيسير التحرير: الأولى أن يقال: القول لزيادة البيان (2).
والصواب ما قاله أبو الحسين البصري من أن القول معلِّق للبيان على الفعل (3).
وهذا ما اعتمدناه، إذ جعلنا القول هنا طريقة يُستدلّ بها على كون الفعل بياناً. وبالله التوفيق.
وهذه الطريق مرحلتان:
المرحلة الأولى: أن يقول إن الفعل بيان، ولا يعيّن ما هو بيان له، ويتعيّن بالقرائن. كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في التيمم.
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 8/ 148)
(2)
تيسير التحرير 3/ 175، 176
(3)
أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 338
المرحلة الثانية: أن يعيّن بقوله ما هو بيان له، كأن يقول: هذا الفعل بيان لآية كذا وكذا. ولم نظفر لهذه المرحلة بمثال.
والعمدة في تعيين المبيَّن على ما يأتي من الطرق سوى القول.
الطريق الثانية: إجماع العلماء على أن الفعل المعيّن بيان لآية معينة. كإجماعهم في أعداد الركعات في الصلوات، وما فيها من الأركان التي اتفقوا عليها أن ذلك بيان للصلاة المأمور بها في الكتاب. وأن مقادير الزكاة التي أخذها صلى الله عليه وسلم هي بيان للزكاة المأمور بها.
الطريق الثالثة: أن يرد خطاب مجمل، ولم يبيّنه صلى الله عليه وسلم بالقول، وأتى وقت التنفيذ، ففعَل صلى الله عليه وسلم أمامهم فعلاً صالحاً للبيان، فيعلم الحاضرون أنه بيان لذلك المجمل. هذا بالنسبة إلى من شاهد الفعل الواقع بعد المجمل. أما بالنسبة إلى من لم يشاهده، كغير الصحابي، فإننا إذا بلغنا الفعل النبويّ يحتمل عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان قد بيّنه بالقول ولم يبلغنا. فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان. قاله الغزالي (1).
ومثاله أنه تعالى أمر بالوقوف بعرفة، ولم يذكر وقت الوقوف، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم تاسع ذي الحجة، فتبيّن بذلك وقته للواقفين معه.
ومثاله في جانب المحرّمات: إن الله حرّم الميتة، فاحتمل دخول الجراد في ذلك، فلما أكله صلى الله عليه وسلم أمامهم، أو أقرّ آكليه وهو يراهم يفعلون، عُلِم عدم دخوله في الميتة المحرمة.
الطريق الرابعة: أن يُسأل صلى الله عليه وسلم عن بيان مشكل، فيفعل فعلاً، ويعلم بقرائن الأحوال أنه يريد جواب السائل (2)، كالذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، فقال:"صل معنا" فصلّى في اليوم الأول في أول الوقت، وصلى في اليوم الثاني في آخره، فعلم بذلك، أول الوقت وآخره. ولما قال صلى الله عليه وسلم: "أين السائل،
(1) المستصفى 52/ 2.
(2)
أبو شامة: المحقق ق 36 ب.