الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة القائلين بالندب:
القائلون بالندب في الفعل المجرّد بأنواعه، استدلوا بما ورد في الشريعة من طلب التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاتباع له، ومن فعل الصحابة (1) وقالوا: إن الشرع طلب التأسي لا على سبيل الوجوب، فلا يبقى إلا أنه دال على الندب. واستدلوا على انتفاء الوجوب بانتفاء دليل يحتّم التأسِّي. وحاولوا رد أدلة القائلين بالوجوب بما نذكره في المطلب التالي.
واستدلوا على انتفاء الوجوب أيضاً بأمور (2):
الأول: أن الفعل أضعف دلالة من القول، والقول يدل على الوجوب، فينبغي أن لا يكون الفعل دالاً عليه، بل على الندب (3).
ويجاب عن ذلك بأنه لا يلزم من كونه أضعف دلالة خروجه من دائرة الدلالة على الوجوب.
الثاني: حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"كل أمتي يدخلون الجنّة إلا من أبى" قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"(4). قالوا: والطاعة والعصيان إنما هي بالنسبة إلى القول دون الفعل. فدل على أن الوجوب مستفاد من القول دون الفعل (5).
ويجاب بأنه إذا أمر بالقول باتباع فعله، فلم يتّبع، كان عصياناً.
سلمنا أن الطاعة اتِّباع مقتضى القول، والعصيان مخالفته، لكن ليس في الحديث تعرّض للفعل أصلاً. ولو دلّ هذا الحديث على عدم الوجوب، بالفعل
(1) تقدم إيضاح ذلك في الفصل الثالث.
(2)
لم نر أحداً تتبع هذه الأحاديث بالرد على استدلال ابن حزم وأبي شامة بها إلا قليلاً. وقد رددنا عليهما بما يسره الله.
(3)
أبو شامة: المحقق ق 15 ب.
(4)
البخاري 13/ 249
(5)
أبو شامة: المحقق ق 15 ب.
لزم مثل ذلك في الأدلة الأخرى، التي لم تذكر في هذا الحديث، كالإجماع والقياس.
الثالث: حديث: "ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه"(1). قالوا: وهذا ظاهر في القول دون الفعل (2).
ويجاب بأنه إذا دلّهم بالقول على اتّباع فعله فقد بين بالقول.
وأيضاً: هذا منتقض بكل ما يدل على الوجوب من غير أمره، كالقياس والمفهوم والإجماع.
وأجاب بعض الحنفية (3) أيضاً بأن الاستحباب كذلك يستدعي التبليغ، فإن لم يكن الفعل تبليغاً للوجوب فلا يكون تبليغاً للندب.
الرابع: حديث: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلكَ من كان قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"(4) قالوا: فلم يوجب على أحد إلا ما استطاع، مما أُمر به، واجتناب ما نهي عنه فقط، وأسقط ما عداه. وأمرهم بتركه ما تركهم (5).
ويجاب عن ذلك بمثل ما تقدّم في الحديث السابق.
الخامس: قالوا: إنا قد علمنا بضرورة الحسّ والمشاهدة أنه صلى الله عليه وسلم، وكلَّ حي في الأرض، لا يخلو طرفة عين من فعل، إما جلوس، أو مشي، أو وقوف، واضطجاع، أو نوم، أو اتكاء، أو غير ذلك من الأفعال. وفعله لم يظهر دائماً، بل هو في حال خلوته لا يترك الأفعال. قالوا: وهذا يدل على عدم وجوب شيء من
(1) قال أبو شامة: رواه الشافعي من حديث المطّلب بن حنطب.
(2)
أبو شامة: المحقق ق 15 ب.
(3)
تيسير التحرير 3/ 1126، وأيضاً: فواتح الرحموت 2/ 182
(4)
رواه مسلم 15/ 109
(5)
ابن حزم: الإحكام 1/ 429
أفعاله، إذا لو كان واجباً لوجب أن يحضره أحد منهم دائماً، لينقل إليهم ما فعله صلى الله عليه وسلم من الواجبات.
وهذا من أقوى ما يحتجّون به (1).
وجوابه، وبالله التوفيق، من وجوه:
1 -
أن ما يفعله صلى الله عليه وسلم في غيبته مما كان واجباً، لا يمتنع أن يفعل مثله مرة أو مرات أخرى بحضرتهم، فيحصل المقصود.
2 -
أنه صلى الله عليه وسلم قد حرص على تكثير نسائه، والحكمة أن يرين أحواله في خلوته وينقلنها إلى الناس، وهذا يدل على خلاف ما ذكروا.
3 -
أن دليلهم ينتقض بقولهم هم. إذ إنهم يقولون: فعله يدل على الاستحباب. والاستحباب شرع يجب بيانه، فكان يلزم إظهاره كالواجب.
4 -
أن ما مثلوا به أفعال جبلّيّة، لا ترقى إلى مرتبة الوجوب، بل ولا الاستحباب. والواجبات من أفعاله صلى الله عليه وسلم قليل، فيمكن إظهارها.
السادس: واحتج به ابن حزم (2)، أنّ الأفعال لو كانت على الوجوب لكان ذلك تكليفاً لما لا يطاق، من وجهين:
1 -
أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث وضع صلى الله عليه وسلم يده، وأن نمشي حيث مشى، وننظر إلى ما نظر إليه. وهذا كله خروج عن المعقول.
ويجاب عن هذا الوجه، بأن هذه مباحات جبلّيّة لا دخل لها في الأحكام، فلا ترد على قول القائلين بالوجوب، والقائلين بالمساواة.
وأيضاً لو صحّ هذا لكان وارداً على قول الندب الذي يقول به ابن حزم، فما كان جواب القائلين بالوجوب.
(1) انظر أصول الجصاص (ق 209 أ).
(2)
الأحكام 1/ 435
2 -
أن أكثر هذه الأشياء -يعني الأشياء الماديّة التي تصرف فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأعيانها- قد فنيت، فكنّا من ذلك مكلّفين ما لا نطيق.
والجواب أن القائلين بالوجوب، إنما يقولون بوجوب إيجاد فعلٍ مماثل لفعله صلى الله عليه وسلم. والمماثلة تتحقق دون ما ذكر.
وأيضاً هذا لو صحّ لكان وارداً على قول الاستحباب.
السابع: واستدلوا أيضاً بحديث الأعرابيّ (1) الذي حلف أن لا يزيد شيئاً على ما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم من أركان الإسلام الخمسة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق. قالوا: لم يُلزمه النبي صلى الله عليه وسلم أفعاله. ولم ينكر عليه الاقتصار عليها بل شهد له بالفلاح (2).
وجوابه ما ثبت من إيجاب أمور أخرى كالجهاد وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاحتمل أن يكون هذا الحديث متقدّماً ويكون كل ما ثبت وجوبه غير الخمسة المذكورة متأخّراً. ويكون دليل التأسي متأخّر الورود عن حديث الأعرابي.
الثامن: واستدلوا أيضاً بحديث عبد الله بن مسعود (3)، قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد (أو قال: فنقص) فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدَثَ في الصلاة شيء؟ قال:"وما ذاك؟ " قالوا: صليتَ كذا وكذا. قال: فثنى رجله واستقبل القبلة، فسجد بهم سجدتين ثم سلم. فلما انْفتَل أقبل علينا بوجهه، فقال:"لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون. فإذا نسيتُ فذكِّروني. وإذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصواب فليبنِ عليه، ثم يسجد سجدتين"(4). قالوا: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به"، ما كنت أقتصر على بيان ذلك بفعلي، بل كنت أنبئكم به قولاً.
(1) رواه البخاري 1/ 106 ومسلم 1/ 166
(2)
أبو شامة: المحقق ق 17 ب.
(3)
رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الثلاثة (جامع الأصول 6/ 354)
(4)
أبو شامة: المحقق ق 23 أ