الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحتجوا على القائلين بالمساواة، بأنهم أجازوا التأسي فيما لا يعلم وجهه، بأن يفعل على طريق الندب، أو على طريق الإباحة. وهذا عندهم يدل على أن التأسي لا يشترط فيه معرفة حكم الفعل.
كشف أمر هذه الشبهة:
ونحن نقول، وبالله التوفيق: إن كلًا من القائلين بالندب والقائلين
بالوجوب، قد شط، والذي يقتضيه ما أورده أن الائتساء والاتباع الموافقة في
الأفعال، كما فسره أهل اللغة. والموافقة المساواة من جميع الوجوه.
فإذا علمناه صلى الله عليه وسلم عمل عملاً على وجه الوجوب لا نكون وافقناه بعملنا إياه على وجه الندب، إذ إن هذه مخالفة حقيقية، فلا تتحقّق الأسوة.
وكذلك عكسه، فإن علمناه قد فعل الفعل ندباً فمن المخالفة له أن نفعله على وجه الوجوب ونتخذه علينا واجباً، وكذلك لو علمناه فعل ما فعل على وجه الإباحة يكون من الخطأ اعتبار ذلك قربة والتقرب إلى الله تعالى به وجوباً، أو ندباً. إذ إن ذلك نوع من الابتداع.
أما إذا لم نعلمه فعله ندباً أو وجوباً أو إباحة فإن صفة الفعل لا تكون عندنا أمراً ظاهراً، وليس لنا حينئذ إلا العمل بالظن، وهو حمل القُرُبات على الندب، والتأسي به فيها، وحمل ما عداها على الإباحة.
والحاصل أن الأولى أن يقال: التساوي في الحكم في الفعل المعلوم الصفة واجب، لأن ذلك ظاهر في الفعل، وتركه مخالفة. وأما مجهولها فيعمل بقول الندب في القربة، وبالإباحة فيما عداها، وهذا هو عين قول التساوي كما يأتي إن شاء الله.
وأما ما نقلوه من قول الخنساء، فإن التسلّي عن أخيها لا يدخلها في أغراضه الوجوب أو الندب، حتى يحتّج به في هذه المسألة، أما بالنسبة إلى أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فإن التقرب على سبيل الوجوب، أو الندب، أو فعلها على سبيل الإباحة من أهمّ الأغراض فيه، فلا بدّ من اعتباره.
شبهة ثانية: وقد اعترض بها الفخر الرازي في (المعالم)، وهو يقول فيه
بالوجوب. قال: فإن قالوا: بتقدير أن يعتقد الرسول أن تلك الأفعال غير واجبة على الأمة كان اعتقاد الأمة وجوبها عليها مخالفة، وتركاً للمتابعة. قلنا: الاعتقاد أمر خفيّ متعارض، فثبت أنّا إن اعتبرنا الاعتقاد جاء التعارض، فوجب اطّراحه والاقتصار على الأفعال الظاهرة (1).
وبمثله أجاب أبو الطيّب الطبريّ (2).
وهذه شبهة مطّرحة. لأن من أُمِر بالتأسي فيما لا يعلم وجهه، وقد استطاع أن يستدل عليه بالأمارات، فلم لا يفعل؟ ثم إن فعل فأخطأ فلا يصح نسبته إلى المخالفة وترك الاتّباع. بل هو مجتهد مأجور. ولا يقتضي ذلك جواز المخالفة في معلوم الحكم.
شبهة ثالثة: وقد أثارها أبو شامة. فقد بيّن أن من فعل فعلاً من العبادات لا يدري أواجب هو أم مندوب، أن عبادته صحيحة. ثم إن كان الشرع يقتضي وجوبها، وقع فعله واجباً وأجزأ عنه، وإلا فيقع ندباً، وله الأجر على كلّ حال. وكذلك لو نوى العبادة المعيّنة مطلقاً، أعني دون أن ينوي أنها فرض أو نفل، فعبادته صحيحة.
ثم استدل لذلك.
ثم احتّج بهذا على أن التأسي لا يشترط فيه معرفة حكم القربة التي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تقرّب بها، بل يكفي عنده معرفة أنها قربة، وتميّزها مما ليس بقربة. ورأى أن ذلك يقتضي أنه لا يشترط في التأسي المساواة في حكم الفعل (3).
وفي سبيل الرد على ذلك نحب أن نبيّن، أن قول المساواة، وهو الذي نختاره، يوافق قول الندب فيما عُلِم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ندباً، وفيما جهل حكمه مما ظهر فيه قصد القربة.
(1) أبو شامة: المحقق ق 18 ب.
(2)
أبو شامة: المحقق 18 ب.
(3)
المحقق ق 20 - 23
ويبقى الخلاف في نوعين: الأول ما علم أنه صلى الله عليه وسلم فعله على سبيل الوجوب، والثاني: ما علم أنه فعله على سبيل الإباحة، والمحمول عليه.
فأما في الثاني فبطلان دعوى أبي شامة واضح، لأن ما جاز على سبيل العادة والإباحة لا يجوز فعله على سبيل العبادة، فالله تعالى لا يُعْبَد إلا بما شرع. والمباحات لا يتعبّد بها، وذلك أصلٌ مقرّر في الشريعة.
وأما في الأول. وهو معلوم صفة الوجوب، فإن من التحدّي والمباينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل الشيء واجباً، ونحن نعلم ذلك، ثم لا نتابعه فيه، فهذا خلاف التأسّي. نعم: من جهل حكم القربة فأطلق النّيّة فلا بأس بذلك في بعض صور العبادات، وكذا مَنْ علمه فيطلق النية (1). أما أن يعلم صفة النية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتعمّد أن ينوي خلافها، فإنه مشاق ومعاند، بل ومبتدع متباعد. والله الهادي إلى أقوم طريق.
شبهة رابعة: قالوا التساوي في حكم الفعل قد ثبت عدم اعتباره في صور من التأسّي والاقتداء معترف بها، فيدل ذلك على أن التأسّي لا يشترط لحصوله ما ذكرتم من الساواة في الحكم.
فمن الصور المشار إليها اقتداء المصلي المتنفل بالمفترض، والاتفاق حاصل على صحته، واقتداء المفترض بالمتنفل، وهو جائز عند الشافعي وغيره (2). وكمن خرج لجهاد فتبعه آخر يريد التجارة يسمى متبعاً له في سفره، وإن خالفه في قصده (3).
ونحن نقول: حقيقة التأسّي والمتابعة الساواة من جميع الوجوه، فإذا دل الدليل على سقوط شيء، بقي ما عداه على الأصل (4). ومن هنا تَطَلَّبَ الفقهاء الأدلة على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل وعكسه. وليس حكم الفعل مما قام الدليل على سقوطه. فيجب التزام المساواة فيه.
(1) انظر: السيوطي: الأشباه والنظائر ص 18
(2)
ابن قدامة: المغني 2/ 225، 226
(3)
أبو يعلى: العدة ق 104 أ.
(4)
الأنصاري: فواتح الرحموت 2/ 181
وقال أبو الخطاب الحنبلي (1): إن المتنفل خلف المفترض إن قلنا يكون تابعاً، فلأن الصلاة تجمع قربة وإسقاط فرض والمتنفل متقرب، فهو تابع في القربة دون إسقاط الفرض.
وعندي أن هذا الرد لا يكفي، بل هو تصحيح لجواب أصحاب الندب.
وأجاب شارح مسلم الثبوت، على طريقة الحنفية بأن المتنفل إذا أحرم بالصلاة أصبحتْ عليه واجبة، فيستوي الإمام والمأموم في نية الوجوب. وهذا الجواب لا يجري على غير طريق الحنفية.
وأما استشهادهم بأن من خرج لجهاد فتبعه من يريد الحجّ يسمى متبعاً، فالجواب أنه متبع له في أصل السفر، وليس هو متبعاً له في جهاده. وكذلك اتباعنا للنبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون اتباعاً في مقاصده الشريفة، من التقرّب إلى الله تعالى بما كان يتقرب به، من الواجبات والنوافل.
…
وإذ فرغنا من ذكر ما استدل به القائلون بالندب، والرد عليهم بما فتح الله به، نذكر هنا أن قول الندب إن استساغه أحد في ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يستساغ في ما فعله صلى الله عليه وسلم على وجه الإباحة، والفرق أن الواجب قد فُعِل على وجه القربة، فللندب في مثله منا وجه. أما ما فعله صلى الله عليه وسلم على وجه الإباحة، فإن في فعله على وجه التعبد نوعاً من الابتداع في الدين، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرعه.
وقد تقدم القول في ذلك في مبحث الفعل الجبلي.
(1) التمهيد: ق 90 ب.