الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني الفَاعِل وَجهَاته
النبي صلى الله عليه وسلم بعث مبيناً بقوله وفعله، وملتزماً فيهما بالمنهج الرباني. وكان من تمام البيان الفعلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في حياته بأدوار مختلفة في البيئة الاجتماعية التي كان واحداً من أفرادها. وكان في كل دور من تلك الأدوار قدوة لمن يأتي بعده صلى الله عليه وسلم ممن يمثل ذلك الدور.
فكان الإنسان المسلم، ورب أسرة، وكان رئيس الدولة، ومتولي السلطات، والمحتسب، وقائد الجيش، والقاضي، والمفتي، وكان إمام الصلاة.
وكان كثير من هذه الأدوار ممتزجاً بعضه ببعض، في شخصه صلى الله عليه وسلم.
والتصرف الذي كان يتصرفه كان ينتمي إلى واحد أو أكثر من هذه الجهات من شخصه الشريف.
والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في فعل من أفعاله يكون صحيحاً إذا كان المقتدي به مساوياً له في الجهة التي صدر عنها ذلك الفعل.
فالتصرفات الصادرة عنه بوصفه رئيس الدولة، يقتدي به فيها من كان بعده رئيس دولة.
وما فعله بوصفه مفتياً، يقتدي به فيه المفتي.
وما فعله بوصفه قاضياً، يقتدي به فيه القاضي.
وما فعله بوصفه إماماً في الصلاة يقتدي به فيه الأئمة بعده. وذلك كتقدمة
أمام الصف، ونيته الإمامة، وجهره بالقراءة بصوت مرتفع، وسبقه لهم بأفعال الصلاة، واتخاذه سترة، وتركه التطوع مكان الفريضة.
وسائر المصلين يقتدون به في ما يفعله بوصفه مصلياً مطلقاً، كرفع اليدين، والتكبير، وقول آمين والركوع والسجود ونحو ذلك.
التمييز بين جهات الفاعلية:
لكن تمييز ما ينتمي إليه الفعل من هذه الجهات المختلفة قد يكون أمراً بيّناً لا يختلف فيه، كما تقدم في ما ذكرناه من أفعال إمام الصلاة، وقد يكون مشكوكاً فيه فيقع الاختلاف فيه.
وقد تبينت الحاجة إلى التمييز بين أوصافه التي ترجع إليها أفعاله صلى الله عليه وسلم بل وأقواله، عندما انفصلت الأعمال في المجتمع الإسلامي، واختص بكل دور شخص معيّن أو طائفة من الناس. وبعض ذلك حصل في زمنه صلى الله عليه وسلم.
لقد حاول الِقرافي محاول جادة، وضع قاعدة التمييز بين الجهات المختلفة المشار إليها، لكن في حيز الأحكام القضائية، وما يمكن أن تشتبه به، وذلك في رسالته (الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) ميّز فيها (1) بين أنواع من التصرفات:
الأول: تصرفه صلى الله عليه وسلم بمقتضى الرسالة. ومقتضاها التبليغ. يقول القرافي:
"أما الرسالة فليس يدخل فيها إلا مجرد التبليغ
…
وهذا لا يستلزم أنه فُوِّض إليه أمر السياسة العامة. فكم من رسلٍ لله تعالى لم يؤمروا بالنظر في المصالح العامة".
الثاني: تصرفه بمقتضى الإمامة (السلطة العامة)، ومقتضاها السياسة العامة، وتنفيذ الأحكام، والقيام بالمصالح.
(1) انظر الرسالة المذكورة ص 87 - 94
الثالث: تصرفه بمقتضى الإفتاء، وهو تطبيق الأحكام الشرعية على الوقائع دون إلزام.
الرابع: تصرفه بمقتضى الحكم، يعني القضاء. وذلك يقتضي أن له سلطة إنشاء الأحكام القضائية.
ونحن قد توسّعنا في بيان جهات أخرى غير ما ذكره القرافي.
ونضيف أيضاً بيان الحكمة في جمعه صلى الله عليه وسلم لهذه المناصب، وفائدتها من جهة التبليغ.
فقد يُقال: إنه كان بالإمكان أن يقوم صلى الله عليه وسلم بمهمة الرسالة وحدها، أي بمجرد التبليغ. فيبيّن بقوله ما على رئيس الدولة أن يفعله وما على القاضي أن يفعله، وهكذا المحتسب، وإمام الصلاة، والمفتي وغيرهم، وما لهم أن يفعلوه أيضاً.
والجواب ما تقدم من أن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ومهمته التي حددت في القرآن ليست مقصورة على التبليغ. بل منها التعليم والتزكية أيضاً، وذلك يتمّ بأن يكون ما بلغه صلى الله عليه وسلم بالقول، مطبّقاً تطبيقاً حيّاً مشاهَداً، ليحصل تمام الإدراك والتعقل لما يبلغه بالقول.
فحصل بجمعه صلى الله عليه وسلم منصب القضاء إلى منصب الرسالة البيان الفعلي لما يراعى في القضاء من الأحكام الشرعية. وبجمعه منصب الإفتاء إلى منصب الرسالة البيان الفعلي لما يراعيه المفتي عند إصداره الفتيا. وبجمعه إمامة الصلاة البيان الفعلي كذلك. وكذلك يقال في الإمامة العامة والإدارة، وما سواها من المناصب.
وكان هذا أظهر في الحكمة من أن يكون متوليّاً منصب الرسالة وحده، إذ لا تتبين حينئذٍ الأحكام الشرعية المتعلقة بسائر المناصب إلا قولًا فقط، وذلك يكون قصوراً في البيان والتعليم. والله عليم حكيم.
ولكن قد حصل بسبب هذا الجمع بين المناصب اشتباه في بعض الأحكام المستفادة من الفعل: أهي أحكام شرعية عامّة تلزم الأمة، أم هي أحكام خاصة موقتة، تلزم من تعلقت به وحده.