الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجواب أن مثل هذه الحادثة خالفَ فيها الفعلُ القولَ المتقدم المستقرّ المعلوم، فلا يكفي الفعل لنسخه لو كان المراد النسخ، فلو لم ينبئهم به لقُدم القول.
وحينئذ فإذا أريد نسخه لا بد من أن يكون ذلك بقول. وخاصة على قول من يقول: الفعل لا ينسخ القول مطلقاً، أو لا ينسخه ما لم يتكرر.
وأيضاً ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أنه ينسى كما ينسون، يجعل تركه لما ترك مجملاً، لأنه يدور بين النسيان وبين التشريع، ومن أجل ذلك لا يصلح الفعل بياناً في مثل هذا المقام، ويتعين القول.
…
هذه أدلتهم التي أوردوها، وقد زيّفناها وبيّنا أنها لا تدل على مطلوبهم. ولقد صرّح أبو شامة بأن "الاقتداء بالواجب من فعله صلى الله عليه وسلم لا يكون واجباً، وأنه لا يعلم شيئاً من الأحكام الواجبة مستندُ وجوبه الفعل". وهذه مجازفة غير مقبولة، كان ينبغي له أن يحترز من إطلاقها، لعل الذي حمله على ذلك اقتفاء خطوات ابن حزم رحمة الله عليهما. وإلَاّ فأيّ دليل قوليّ يدل على وجوب خطبة الجمعة، وركنيّة ركعتين في صلاة العيد، ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، والبدء بالصفا، ووجوب ركوعات صلاة الكسوف، وسجود السهو، وغير ذلك.
دليل بطلان قول الندب:
التأسّي المطلوب شرعاً يقتضي المساواة في صورة الفعل، وفي حكم الفعل. وبدون ذلك لا يكون الفعل الذي نفعله تأسياً. فمن لم يفعل ما يماثل الفعل النبويّ في الصورة فليس متأسيّاً، بل يكون مخالفاً (1). وكذلك مَن فعَل ندباً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجباً، فذلك ليس تأسيّاً، بل هو نوع من المخالفة، أو هو أقرب إلى الابتداع.
(1) أبو الخطاب: التمهيد ق 90 أ.
وهذا دليل صحيح. وهو عمدة القائلين بالمساواة في الحكم. وهو الذي نأخذ به. وله يمكن الرد أيضاً على قول القائلين بالوجوب.
وقد اعترض على هذا الدليل بشبهٍ أربع:
الشبهة الأولى: وقد اعترض بها أبو شامة (1). وحاصلها أن تفسير الأسوة بالمساواة في الصورة والحكم تفسير غير مقبول، إذ لا يعرفه أئمة اللغة. بل الوارد في مصنفاته تفسير الأسوة بالاقتداء، وهو لا يقتضي المساواة في الحكم. يقول أبو شامة:"لم أر أحداً ممن وقفت على مصنفه في اللغة ذكر في معنى الائتساء والاتّباع ما ذكروا، ولا يشترط ما شرطوا، بل يفسّرون الائتساء بالاقتداء، هكذا مطلقاً. نحو قول الراغب: الأسوة والأسوة كالقُدوة والقدوة. وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسناً وإن قبيحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً. ولهذا قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فوصفها بالحسنة".
ثم نقل عن غير الراغب مثل ذلك، ثم قال:"فالتأسي على هذا عبارة عن فعلٍ يوافق فعل الغير، مفعولٍ لأجل فعله، متصفٍ بصفاته الظاهرة دون الموافقة له في النية".
ثم قال: "إن دعواهم مقابلة بدعوى أكثر منهم من أهل الأصول، وهم القائلون بالتعيين من وجوب أو ندب، فإنهم لا يفسّرون التأسي والاتباع بما ذكروا، فليرجع إلى تفسير أهل اللغة فإنه الأسدّ".
وقد تلقف هذا التفسير للأسوة المحدّث الصنعاني (2)، وأكده بالاستشهاد بقول الخنساء في مرثاة أخيها صخر:
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أسلِّي النفس عنه بالتأسّي
بعد قولها:
ولولا كثرةُ الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
(1) المحقق ق 18 أ، ب.
(2)
حاشية هداية العقول 1/ 466