الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني الفعل المجهول الصِّفة
يجري في الفعل المجرّد المجهول الصفة، ما يجري في المعلوم الصفة من الخلاف. وترد فيه الأقوال المتقدمة على السواء، ما عدا قولَ المساواة، ففيه هنا - أعني في مجهول الصفة- تفصيل.
أما في ما عدا قول المساواة فلأن العلم بصفة صدوره عنه صلى الله عليه وسلم لا يؤثر في الحكم المستفاد، بل الحكم المستفاد في حقنا على القول الثالث هو الوجوب مطلقاً، أعني سواء كان حكم الفعل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم الوجوب أو غيره، وعلى القول الرابع الندب، مطلقاً، وهكذا في سائر الأقوال. ولذلك تجري الأقوال الخمسة في مجهول الصفة.
أما قول المساواة، فإن المساواة بين حكم فعلنا وحكم فعله صلى الله عليه وسلم لا يمكن تحقيقها ما لم يتعيّن لفعله واحد من الأحكام الثلاثة.
ومن أجل تحقيق قول المساواة في الفعل المجرّد المجهول الصفة، كان لا بدّ من حمل فعله على واحد من الأحكام الثلاثة في حقه صلى الله عليه وسلم، بنوع ترجيح ظاهريّ، مع الاعتراف بأنه قد يكون في الحقيقة والباطن على حكم آخر. وبعض العلماء أبى حمله على شيء من الثلاثة.
من أجل ذلك كان في المسألة أقوال أربعة:
القول الأول: أنه يحمل على الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم، لأنه الأحوط بالنسبة إلينا (1). ولأن فعله أعظم أجراً، فيكون أليق بحقه صلى الله عليه وسلم.
(1) القاضي أبو يعلى: العدة ق 106 أ.
والقول بالوجوب في ما ظهر فيه قصد القربة من الفعل المجرّد، أقوى منه في ما لم يظهر فيه ذلك القصد.
ونقل القول بالوجوب فيما ظهر فيه قصد القربة عن مالك (1) وعن ابن سريج، وأبي سعيد الإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران من الشافعية، وعن الحنابلة (2) ونصره القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (العدة)(3) وصرّح به من متأخري الشافعية الشيخ زكريا الأنصاري (4)، والتزم أنه للوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم وحقنا حتى في ما لم يظهر فيه قصد القربة.
القول الثاني: أنه يحمل على الندب في حقه صلى الله عليه وسلم، وهو أصحّ الأقوال في ما ظهر فيه قصد القربة. إذ إن القربة دائرة بين الوجوب والندب، فالمباح لا قربة فيه.
ولما دارت القربة بين الوجوب والندب، وكان حمله على الوجوب لا بدّ له من دليل، إذ هو أمر زائد على مجرد القربة، كان الأولى حمله على الندب لأنه المتيقن، والوجوب مشكوك فيه.
وقال أبو شامة: "هو متردّد بين أن يكون مندوباً له، أو واجباً عليه وجوب الخصوصية. إذ لو كان واجباً مشتركاً لوجب عليه أن يبلغه المكلّفين. فلما لم يفعل دلّ على أنه غير واجب عليهم. ثم إذا وقع التردد بين كونه مندوباً إليه، أو واجباً عليه، غلب على الظن كونه مندوباً، لغلبة المندوب في أفعاله صلى الله عليه وسلم وقلة ما اختصّ به من الواجبات"(5) وفي هذا التقسيم نظر يعلم مما يأتي في قول الندب.
وأما القول بالندب في ما لم يظهر في قصد القربة، فقد وجّه بأن الغالب من أفعاله صلى الله عليه وسلم المندوبات. وهو توجيه ضعيف.
وقد قال الشوكاني (6) بالندب، ووجّهه بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يظهر فيه
(1) تيسير التحرير 3/ 122
(2)
الآمدي: الأحكام 1/ 248
(3)
العدة ق 105 أ.
(4)
غاية الوصول شرح لب الأصول ص 92
(5)
المحقق ق 11 أ
(6)
إرشاد الفحول ص 38
قصد القربة، فهو لا بدّ أن يكون لقربة. وأقل ما يتقرّب به المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به.
وهذا أيضاً توجيه آخر ضعيف، لأن قوله:"لا بدّ أن يكون لقربة" مردود فالنبي صلى الله عليه وسلم واحد من البشر، يفعل كغيره من الناس، ما أباح الله له. وليس فعل المباح عبثاً فيلزم تنزيهه عنه، بل قد يفعل لجلب نفع أو دفع ضرر.
القول الثالث: أنه للإباحة وهو ضعيف بالنسبة إلى ما ظهر فيه قصد القربة. ولكن هو أصح الأقوال فيما لم يظهر فيه ذلك القصد، وادّعى بعض الحنفية الإجماع عليه (1). ووجهه أن الفعل المجرد لا يفهم منه أكثر من رفع الحرج، تُرِك ذلك في ما ظهر فيه قصد القربة، وبقي ما لا قربة فيه خالياً من دليل يدل على أكثر من الإباحة، فيحمل عليها.
فإذا دار الفعل بين أن يكون مقصوداً به القربة أو لا يكون، فمن غلّب فيه قصد القربة استدل بالفعل على الاستحباب، ومن غلّب فيه عدم قصد القربة استدلّ به على الجواز.
ومثاله لبس النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة قال ابن دقيق العيد: "إنه يدل على الجواز، ولا بنبغي أن يؤخذ منه الاستحباب، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المقصود من الصلاة إلّا أن دليل على إلحاقه بما يُتجمّل به للصلاة، فيرجع إليه"(2).
أقول: قد صح فيه الحديث: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم"(3). فكان قصد القربة فيه من وجه آخر غير التجمّل. والله أعلى وأعلم.
القول الرابع: التوقّف. ومعناه الامتناع عن حمل الفعل المجهول الصفة على حكم معيّن. فيمتنع المساواة فيه، بناء على ذلك.
(1) انظر تيسير التحرير 3/ 122
(2)
الأحكام 1/ 227
(3)
رواه أبو داود والحاكم والبيهقي (الفتح الكبير).