الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجعرانة: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة بعد ما تضمخ بطيب؟ فلم يجبه حتى نزل الوحي.
وأجيب عن ذلك بأنه قد يكون التأخير لانتظار الوحي، إذ لا اجتهاد مع النص. وربما كان التأخير لغموض الدليل المجتهد فيه، فيحتاج إلى زمان مهلة.
3 -
وقالوا: لا يجوز العلم بالظنّ مع القدرة على اليقين.
وأجيب عن ذلك بمنع قدرته صلى الله عليه وسلم على اليقين بإنزال الوحي، لأن إنزال الوحي لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم، بل هو إلى الله تعالى. فإن لم ينزل عليه وحياً في المسألة الواقعة جاز له الاجتهاد فيها.
4 -
قالوا: لو صلى الله عليه وسلم كان يفعل بالاجتهاد، لجازت مخالفته من مجتهد آخر.
وأجيب عن ذلك، بأن اجتهاده، إذا أقرّ عليه، وحي باطن، فلا تجوز مخالفته. وأمّا قبل تبيّن الإقرار، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يشيرون عليه، فيقبل مشورتهم، ويعترضون عليه أحياناً كما تقدم النقل عن عمر رضي الله عنه، فيبيّن وجه اجتهاده (1).
النوع الثالث: مسألة التفويض:
وهي أنه هل يجوز أن يكل الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم في بعض الأمور بما يراه، دون نص ولا قياس على منصوص، وأن يفعل بناء على ذلك، فما قاله بناء على ذلك أو فعله فهو شرع الله، ويكون مكلّفاً به؟.
قد أجاز ذلك كثير من أهل العلم منهم أبو علي الجبائي، والآمدي، وابن السمعاني، والسبكي، والشيرازي (2).
(1) تيسير التحرير 1/ 189
(2)
انظر الآمدي 4/ 282، وجمع الجوامع 2/ 391، وتيسير التحرير 4/ 236، والمعتمد ص
889، والقواطع ق 287 أ، واللمع ص 78
ومنعه أبو الحسن البصري وأكثر المعتزلة، وأبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية.
وكثير ممن أجاز ذلك قال إنه مع جوازه لم يقع.
وتردد الشافعي، فقيل إن تردّده في الجواز، وقيل في الوقوع (1).
وقد احتج المجيزون لذلك:
1 -
بقوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه} (2) أضاف التحريم إلى إسرائيل عليه السلام، فدلّ على أنه كان مفوضاً إليه، وإلاّ لكان قد فعل ما ليس له، ومنصب النبوة يأبى ذلك.
وقد نوقش هذا الدليل، باحتمال كون تحريمه لما حرمه عن قياس.
ويجاب بأنه لو كان عن قياس، للزم أن لا يكون ما حرّمه حلالاً قبل تحريمه له، بل يكون حراماً ظهرت حرمته بعد اجتهاده. وهو خلاف ظاهر الآية، فإنها نسبت التحريم إليه.
2 -
واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. وأنها لن [كذا] تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا يُنفّر صيدها، ولا يُخْتَلَى شوكها، ولا تحلّ ساقطتها إلاّ لمنشد
…
" فقال العباس: "إلاّ الإذْخِر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا". قال:"إلاّ الإذْخِر"(3).
(1) قال الشافعي في الرسالة بعدما ذكر أن السنة قد تأتي بما ليس له أصل في القرآن "منهم من
قال: جعل الله له صلى الله عليه وسلم بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما
ليس فيه نص كتاب" وهذا هو التفويض، ثم ذكر أنه قد قيل أيضاً: إنها صادرة عن
القرآن، أو بوحي خاص، أو بإلهام ثم قال الشافعي "وأي ذلك كان فقد بين الله أنه فرض
طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً" (الرسالة ص 91 - 103) فالتفويض عنده
أمر محتمل وجائز.
(2)
سورة آل عمران: آية 93
(3)
مسلم 8/ 129وهذا لفظه ورواه البخاري.
ومعلوم أن استثناءه الإذْخِر لم يكن إلاّ من تلقاء نفسه، لعلمنا بأنه يوح إليه تلك اللحظة.
وقد نوقش الاستدلال بهذه الواقعة، باحتمال أن يكون جاءه الوحي باستثناء الإذْخِر، بوحيٍ كلمح البصر.
3 -
ومما يجوز أن يحتج به لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد همَمْتُ أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن فارس والروم يصنعون ذلك، فلا يضرّ أولادهم"(1).
فظاهرٌ أنه عندما همّ أن ينهى عن ذلك، لم يكن نهيه لأجل وحي أتاه بذلك، بل لمجرد أنه يرى في ذلك مصلحة، وأنه امتنع من النهي عن ذلك عندما علم أن أقواماً يفعلونه ثم لا يقَع عليهم منه ضرر.
4 -
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"(2). وهو صريح في أن الأمر بالسّواك، وعدمه، مفوّض إليه، لأن مثل هذا القول لا يصدر إلاّ عمن كان الأمر بيده.
ومثل ذلك ما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحجّ فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم"(3). ولولا أن الأمر مفوّض إليه لما كان هذا الخطر محتمَلاً، لأن الوحي لا يعجل لعجلة أحد من الناس.
ومثله أيضاً ما في سيرة ابن هشام، أنه صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث في الأسر بعد وقعة بدر، فقالت أخته قُتَيْلَة أبياتاً تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم تقول منها:
ما كان ضَرَّك لو مننتَ وربّما
…
منَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحَنَّقُ
فقال صلى الله عليه وسلم: "لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته". فلو لم يكن القتل وعدمه مفوضاً إليه، لكان سماعه لهذا الشعر، وعدم سماعه له، سواء.
(1) مالك ومسلم وأحمد والأربعة (الفتح الكبير).
(2)
رواه السبعة (الفتح الكبير).
(3)
صحيح مسلم 8/ 101 ورواه البخاري.