الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني البَيَان الفِعلي
ذكرنا في المبحث السابق أحكام البيان إجمالاً، ونخصص هذا المبحث بالبيان الفعلي:
حكم البيان بالفعل:
البيان بالفعل أحد أنواع البيان. فيمكن استعماله حيث أفاد المطلوب.
وواضح عقلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان واسطة لتبليغ الشريعة وبيانها، فإنه يبين بالطريقة التي يختارها. فإما أن يبيِّنَ المشكل بأقواله أو بأفعاله. فلما صحّ البيان بالأقوال لكونها دليلاً على المطلوب فكذلك يصح البيان بالأفعال حيث تدل على المطلوب.
فما أفاد فيه البيان بالأقوال والأفعال، أجزأ بكل منهما (1). ويكون ذلك واجباً مخيَّراً، أيَّ الخصلتين فعل فقد أدّى ما وجب عليه. وهذا مذهب أكثر العلماء. وقد قيّده عبد الجبار (2) بأن لا يختص أحدهما في كونه مصلحة بما ليس في الآخر، وهو بمعنى ما ذكرناه أعلاه من اشتراط الإفادة.
وقد منع بعض الأصوليين وقوع البيان بالأفعال. نُقِل ذلك عن أبي إسحاق
(1) راجع كتاب أبي شامة: المحقق من علم الأصول، ق 11 ب.
(2)
المغني17/ 250
المروزي الشافعي، وعن أبي الحسن الكرخي الحنفي (1). ونقله السرخسي (2) عن (بعض المتكلمين)، وقال:"إن هذا منهم بناء على أصلهم أن بيان المجمل لا يكون إلا متصلاً به. والفعل لا يكون إلا منفصلاً عن القول". ثم قال: "فأما عندنا: بيان المجمل قد يكون متصلاً به، وقد يكون منفصلاً عنه".
وذكر البناني (3) أن محل الخلاف إذ لم يعلّق البيان بالفعل قولاً. وإلاّ فلو قال: القصد بما كلفتم به من هذه الآية ما أفعله، ثم فعله، فلا خلاف أنه بيان، كما ذكره القاضي (الباقلاني) في تقريبه.
أقول: فعلى هذا لا ينبغي أن يكون خلاف في أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مثلاً، بيان لآية الأمر بالحج، لكونه صلى الله عليه وسلم قال لهم:"خذوا مناسككم لعليّ لا أحجّ بعد حجتي هذه"(4).
وكذلك لما صلّى به جبريل لبيان أوقات الصلوات يومين متواليين، يصلي في اليوم الأول أول الوقت، وفي اليوم الثاني آخره، ثم قال: الوقت ما بين هذين.
أقول: وينبغي أن يحصر الخلاف أيضاً في الأفعال التي تدل بالأسوة، لا فيما يستعمل بمعنى المخاطبة، كالإيماء، والإشارة، فإنها قائمة مقام القول. كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر:"ذبحت قبل أن أرمي" فأومأ بيده، قال:"لا حرج"(5).
وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه"(6). وأشار بيده يقللها.
(1) انظر النقل عنهما في: إرشاد الفحول ص 173
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 27
(3)
حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 68 وقد جعل صاحب تيسير التحرير (3/ 175، 176) هذا النوع مما فيه الخلاف. وما قاله البناني والباقلاني أولى.
(4)
رواه مسلم 9/ 44 وهذا لفظه. ورواه النسائي 5/ 270 بلفظ يا أيها الناس خذوا مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا.
(5)
رواه أبو داود (جامع الأصول 4/ 111).
(6)
رواه مالك وأحمد ومسلم (الفتح الكبير).
ومثل الإشارة: الكتابة والعقد، وسائر ما يؤدّي مؤدَّى القول (1).
ووجهة من يمنع كون الفعل بياناً أن البيان بالقول ممكن، والبيان بالفعل أطول زمناً منه بالقول، فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله وتيسّره بالقول، وذلك عبث، والعبث ممتنع على الشارع.
وقد أجاب الأولون عن ذلك بأجوبة (2):
الجواب الأول: عدم التسليم بكون البيان بالأطول عبثاً، فإن كون أحد الطريقين إلى الهدف أقصر من الآخر، لا يلزم منه وجوب سلوكه، وترك سلوك الطريق الأطول. فقد يكون الأطول أيسر كما هو معلوم. وقد يكون أوضح وأثبت في الذهن وقد يتبع سلوكه حصول فوائد أخرى (3). وقد تقدم إيضاح ذلك في التعليم بالمشاهدة، فلا نكرره.
(1) أشار إلى ذلك أبو الحسين البصري في المعتمد 1/ 338 وأيضاً الشاطبي في الموافقات 4/ 246، 247
(2)
انظر: في هذه المسألة كلام أبي الحسين البصري في المعتمد 1/ 338 والقرافي: شرح تنقيح الفصول ص123، 124. وأيضاً: تيسير التحرير 3/ 175، 176 والآمدي 3/ 34
(3)
وانظر كمثال على ذلك هذا الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال: "مكانكم" ثم رجع فاغتسل، ثم خرح إلينا ورأسه يقطر، فكبر وصلينا معه" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فقد تبينت بهذا الحديث أمور، كما بوب له بها أصحاب كتب الحديث.
فبوب له البخاري: باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يتيمم.
و: باب هل يخرج من المسجد (بعد الأذان) لعلة.
و: باب إذا قال الإمام: مكانكم ثم رجع انتظروه.
وفي صحيح مسلم: باب متى يقوم الناس إلى الصلاة.
ولمالك في الموطأ: باب إعادة الجنب الصلاة وغسله.
ولأبي داود: الجنب يصلي بالقوم وهو ناس.
وللنسائي: الإمام يذكر بعد قيامه أنه على غير طهارة.
وقال الحافظ في الفتح: وفي هذا الحديث من الفوائد:
جواز النسيان على الأنبياء. قال: في أمر العبادة، لأجل التشريع.=