الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعضها كما أن الأفعال كذلك. وليس هذا المثال مما يجب فيه الترك. لأنه قد ينوي ويرتب أحياناً ويترك ذلك أحياناً أخرى. ولأنه لم يأتنا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم تركه على سبيل الوجوب.
المطلب الثاني إدراك الصحابي للفعل المنقول
أما الأقوال فإن الصحابي يدركها بحاسة السمع، ويسمع ألفاظاً محددة، فيتمكن من نقلها كما سمعها، وقد يرويها بالمعنى.
وأما الأفعال فإن إدراكها يتم في الأغلب بحاسّة البصر. وقد يتمّ بغيرها كعلمهم باستعماله صلى الله عليه وسلم، للطيب والعطور.
وما يدركه الصحابي من ذلك بحاسة البصر قد يكون إدراكاً مباشراً، وهو الأغلب وقد يكون إدراكاً غير مباشر، ولعل من ذلك ما روى عبد الله بن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة (1)، وقال أنس: لم يخضب (2). قال ابن حجر: "فيحتمل أن يكون الذين أثبتوا الخضاب شاهدوا الشعر الأبيض، ثم لما واراه الدهن ظنّوا أنه خضبه".
وهكذا، فإن النقل للفعل يكون أتمّ وأصحّ إن كان الصحابيّ (رآه وهو يفعل) لا أن يكون (رأى ما يستدل به على أنه فعل) وقول ابن عمر:"رأيته صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة" لا يعني أنه رآه أثناء مباشرة عملية الصبغ، بل يحتمل أنه رأى الصفرة فظنها صبغاً، كما قال ابن حجر.
وبعض الأفعال ليس مما يدرك بحاسّة أصلاً، وإنما تدرك آثاره. فلا بدّ أن يلاحظ الناقل لها تلك الآثار، ويلاحظ تكررها، وعدم صدور مخالف لها في الدلالة، ليتمكّن من إثبات الفعل، وذلك كقول عائشة رضي الله عنها: "كان يحب
(1) حديث ابن عمر في الخضاب بالصفرة: البخاري 10/ 304
(2)
حديث أنس في نفي الخضاب: البخاري 10/ 351
التيامن ما استطاع في طهوره وتنعّله وفي شأنه كله". فإن المحبّة والكراهية ونحوهما ليست مما يرى.
كما أن بعض الأفعال لا تقع دفعة واحدة، وإنما يقع من الفعل أجزاء مختلفة في أزمان متفاوتة، فيجمع الصحابي بعض تلك الأجزاء إلى بعض، ليكوّن منها صورة متكاملة للواقعة أو العادة. وقد يكون ذلك التجميع على قدر كبير من المطابقة للواقع، ولكن قد يفوت الراوي بعض التفصيلات التي تكمل الصورة، ويكون لذلك أثر في الأحكام المستفادة.
فمن ذلك الجمع قول أنس: "كان إذا كان يوم عيد خالف الطريق"(1) فإن هذا، إن لم يكن أصله من قوله صلى الله عليه وسلم، يقتضي أن أنساً لاحظ طريق ذهابه صلى الله عليه وسلم، ثم طريق رجوعه، والمخالفة بينهما، ولاحظ ذلك في عيد ثانٍ وثالث، حتى استطاع أن يخبر عن هذه العادة من فعله صلى الله عليه وسلم.
ومثله قول أنس أيضاً: "كان إذا كان مقيماً اعتكف العشر الأواخر من رمضان. وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين".
وقول ابن مسعود: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا".
ومما تبيّن فيه خفاء بعض التفصيلات على الراوي قول أبيّ: "الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعاب علينا". فقال ابن مسعود: "كان ذاك إذ كان في الثياب قلة، فأمّا إذ وسّع الله عليكم فالصلاة في الثوبين أزكى".
فتحصّل أنه لا بدّ في مثل هذا الإدراك من أمور:
الأول: ملاحظة الفعل.
الثاني: ملاحظة تكرره.
(1) البخاري من حديث جابر (الفتح الكبير).