الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإتباع، كقولهم: جاؤوا أجمعون "أكتعون"، وحارٌّ "يارّ". إذ التابع هنا لا دلالة له أصلاً قبل اقترانه بالمتبوع، على ما هو المعتمد عند اللغويين.
وأيضاً فإن دليل الآمدي ينتج امتناع التأكيد بالمساوي، وهو لا يقول به. وهذا نص عبارته "لو فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكِّداً للراجح، إذ الشيء لا يؤكّد بما هو دونه في الدلالة، والبيان حاصل دونه، فكان الإتيان به غير مفيد، ومنصب الشارع منزّه عن الإتيان بما لا يقيد". فقوله: "والبيان حاصل دونه" صادق على التأكيد بالمساوي، فيلزمه منعه. وذلك معلوم بطلانه حتى في التأكيد بالمفرد (1).
وفي الطبيعة إذا نحن أضأنا غرفة بمصباح، ثم قَوَّينا النور بمصباح آخر أضعف من الأول، فلا شكّ أن له تأثيراً في تقوية الرؤية، ما لم يكن الأول كالشمس في قوة إضاءته، ومثل هذا بالنسبة إلى الألفاظ نادر جداً في الدلالة على المعاني المركبة كما تقدم.
ولا ينبني على هذه المسألة شيء من الأحكام، إذ الفرض أن القول والفعل متفقان في المدلول. بل هي تذكر لمجرد استيفاء الأقسام.
القسم الثاني: حال الاختلاف:
بأن يدل أحدهما على أن المطلوب أكثر مما يدل عليه الآخر.
ومحل الخلاف إذا لم يعلّق الفعل بالمجمل قولًا. فإن قال: ما أفعله هو البيان لآية كذا، أو حديث كذا، فالفعل بيان بلا شك. ويكون بدرجة القول. فلا يجري فيه الخلاف الآتي.
(1) التزم الإسنوي في شرح المنهاج بكون التأكيد لا يكون أضعف من المؤكد. ولكن قصره على التأكيد بالمفردات، وأجازه في التأكيد بالجمل، وجعل التأكيد بالأضعف من القول والفعل شبيهاً بالتأكيد بالجمل، فأجازه. ونحن نرى بطلان هذا القول أصلًا، وأن التأكيد بالأضعف جائز.
ومثال هذا القسم، ما روي (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن فطاف طوافين، وسعى سعيين. وروي عنه أنه قال بعد نزول آية الحج:"من أحرم بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد، وسعي واحد عنهما، حتى يحلّ منهما جميعاً".
وفي المسألة ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب الرازي وابن الحاجب أن القول هو البيان، سواء تقدم أو تأخر. وقال به أيضاً أبو الخطاب الحنبلي (2) وغيرهم.
ودليل هذا المذهب أن القول يدل بنفسه على أنه بيان، والفعل لا يدل إلاّ بالواسطة. وما يدل بنفسه أولى (3). والقول هو الأصل في البيان، فينبغي أن يكون هو البيان.
ويكون الفعل الزائد عن القول، على هذا المذهب، كالطواف الثاني في المثال، ندباً، أو خاصاً به صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل الزركشي (4) عن ابن فورك، أنه يبني على هذا القول اشتراطاً معيناً في جواز اعتبار القول بياناً. فرأى أن الفعل إنما يأتي بياناً إن لم يكن هناك قول صالح للبيان، وإلاّ لم يرجع إلى الفعل.
(1) أما الفعل ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن فطاف طوافين- طواف القدوم وطواف الزيارة يوم النحر. وسعى سعياً واحداً بعد طواف القدوم، ولم يسع بعد طواف الزيارة. هذا ما يؤخذ من حديث جابر وغيره. وقد روى النسائي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن فطاف بالبيت طوافين، وسعى سعيين".
وأما القول فما أخرجه أحمد من حديث ابن عمر بلفظ "من قرن بين حجته وعمرته أجزأه لهما طواف واحد". ولم يذكر السعي (الفتح الكبير) وروى الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما، ولم يحل حتى يقضي حجه ويحل منهما جميعاً"(الفتح الكبير).
(2)
التمهيد ق 92 أ.
(3)
الشوكاني: إرشاد الفحول ص 73
(4)
البحر المحيط 2/ 81 أب.
الثاني: مذهب أبي الحسين البصري، وهو أن المتقدم في نفس الأمر هو البيان حقيقة. قال:"لأن الخطاب المجمل، إذا تعقبه ما يجوز أن يكون بياناً له، كان بياناً له"(1).
ثم إن علم المتقدم من القول والفعل فالحكم عنده كذلك. وإن جهل فالقول عنده هو البيان، لأن الفعل لا يكون بياناً للمجمل إلاّ بما يعلقه به من قول أو ضرورة، ولا ضرورة هنا مع وجود القول المبيّن للمجمل.
وقد قدم في أول هذه المسألة، قبل تفصيلها وشرحها، أنه حيث قيل إن القول هو البيان، فالطواف الثاني في المثال المضروب ندب. وحيث قيل بأنه الفعل، فالطواف الثاني واجب.
استدراك الآمدي على مذهب أبي الحسين:
نقل الآمدي (2) مذهب أبي الحسين البصري المتقدم ذكره، ووافقه في حال العلم بالتقدم على ما ذكر، غير أنه أضاف، أنه في حال تقدم الفعل، فإنه وإن دلّ على أن الطواف الثاني واجب، إلاّ أنه لا بدّ من تقديره منسوخاً بالقول، أو خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. والخصوصية أرجح، لخلوّها من نسخٍ للفعل أو تعطيل للقول.
وهذا عندي استدراك لا يخفى، وإنما الذي فعله أبو الحسين أنه نبّه إلى حكم الفعل الزائد عند وروده وقبل ورود القول عليه، ولم يذكر حكمه عند ورود القول بعده مخالفاً له.
فمذهبهما في الحقيقة شيء واحد.
وأما ترجيحه الخصوصيّة على النسخ فلا يوافق عليه، لأن الأصل تساوي الأحكام بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وسيأتي إيضاح ذلك في مبحث الخصائص.
(1) المعتمد 1/ 340
(2)
الإحكام 3/ 38