الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن دقيق العيد: "جمهور الفقهاء على اعتبار النصاب، وشذ الظاهرية فلم يعتبروه، ولم يفرقوا بين القليل والكثير (1). ونقل في ذلك وجه في مذهب الشافعي"(2).
ثم النصاب ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وعند الحنفية عشرة دراهم لأحاديث رويت في ذلك. ونقل ابن حجر في مقدار النصاب ما يقرب من عشرين قولًا (3).
القاعدة في استفادة الحدّ في التقديرات من الفعل النبوي:
إنه متى كان الأصل المنع، فجاء الفعل دالاًّ على الجواز، فإنه يدل على الجواز في نفس المقدار الوارد ذكره بطريق المطابقة، وفي ما ساواه بالقياس بنفي الفارق، ويدل على ما سوى ذلك بطريق الفحوى، أعني في ما هو أولى، ويبقى ما سوى ذلك على المنع.
وأما إن كان الأصل الجواز، فإن الفعل لا يدل على تحديد أصلاً.
وإيضاح هذه القاعدة في الأمثلة المتقدمة كما يلي:
ففي مسألة الوضوء رأوا أن الإسراف ممنوع، وبنوا على ذلك الكراهة، في ما زاد عن ثلاث غسلات. بناء على أنه إسراف، كما ذكره البخاري، والإسراف ممنوع. ومن لم ينظر إلى الإسراف أجاز الزيادة على ثلاث.
وفي مسألة قيام الليل: ليس الأصل المنع بل -كما في الحديث-: "الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر"(4). فلا كراهة في الزيادة على إحدى عشرة. ومن كرهه فقوله مردود.
(1) الإحكام 2/ 264
(2)
فرق ابن حزم بين الذهب وغيره، فجعل للذهب نصاباً هو ربع دينار، ولا نصاب عنده فيما عداه (فتح الباري 12/ 107)
(3)
فتح الباري 12/ 106
(4)
رواه الطبراني في الأوسط (الفتح الكبير)
وفي مسألة زيادة الصحابة في حد الخمر على أربعين: الأصل المنع، فالأصح اعتبار ما زاد تعزيراً، كما قال الشافعي، ووجهه أن بعض الناس تحاقروا العقوبة.
وأما في مسألة القصر: فإنه وإن كان مشروعية القصر هي الأصل في صلاة المسافر لنصّ الآية، إلاّ أن ذلك منوط في الآية بالسفر، وذلك يقتضي جواز القصر ما دام حكم السفر قائماً. لكن من أجمع إقامة ببلد غير بلده، أياماً كثيرة أو قليلة، اشتبه أن يكون في حكم المسافر، أو حكم المقيم. والمغلب في ما زاد على الفعل جانب الإقامة لأن القصر على خلاف الأصل.
أما الشوكاني فإنه يقول في تحقيق أمر هذه المسألة: "الحق أن الأصل في المقيم الإتمام، لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير مسافر، فلولا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة، لكان -يعني الإتمام- هو المتعيّن، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلاّ بدليل .. ولا شك أن قصره في تلك المدة، لا ينفي -يعني من حيث هو دليل فعلي- القصر في ما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك"(1). اهـ.
هذا ما قاله الشوكاني، وهو استدلال بالقاعدة التي ذكرنا، ولكن فيه نظر، لإخراجه من أقام في أثناء سفره، اليوم واليومين، عن مسمّى المسافر. وذلك معاندة للغة. وأيضاً يلزم من قوله إجازة القصر لمن هو غير مسافر، وذلك خلاف ما دلّ عليه القرآن. بل الصواب ما قلنا من أن من أقام بغير بلده فهو من جهة مسافر، ومن جهة مقيم، ويغلب جانب السفر في القليل، وجانب الإقامة في الكثير. ولمّا كان الكثير لا حدّ له لمبدئه، حدوا القليل وحده بالفعل لأنه متيقن، فأخذ ابن عباس بروايته (تسعة عشر يوماً) وأخذ الحنفية برواية (خمسة عشر يوماً) وأخذ الشافعية والحنابلة بصلاته صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الخروج إلى الحج أربعة أيام.
وأما القطع في السرقة، فإن الأصل القطع في القليل والكثيرة، للآية، ولو لم يرد إلا الدليل الفعلي لكان قول أهل الظاهر هو الظاهر. قال ابن دقيق: "الاستدلال
(1) نيل الأوطار 3/ 224
بهذا الحديث -يعني أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلائة دراهم- على اعتبار النصاب، ضعيف، فإنه حكاية فعل. ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلاً عدم القطع في ما دونه" (1). بل الذي دلّ على اعتبار النصاب أحاديث قولية، من مثل ما رفعت عائشة: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً" (2).
وبهذا يظهر الحكم في ما شابه هذه الأمثلة. والله أعلم.
(1) أحكام الإحكام 2/ 263
(2)
حديث "تقطع اليد
…
" البخاري 12/ 96