الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونضرب لذلك مثلاً بفرعين:
الفرع الأول: تحويل الرداء في الاستسقاء، الجمهور أنه فعل تشريعي. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب من ذلك شيء (1).
الفرع الثاني: وضع اليدين على الصدر في الصلاة، لا تقتضيه الجبلة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله. قال الجمهور باستحبابه. وهو الذي ذكره مالك في الموطأ. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، ومنهم من كره الإمساك (2).
والأفعال الجبلية على ضربين:
الضرب الأول:
فعل يقع منه صلى الله عليه وسلم اضطراراً دون قصد منه لإيقاعه مطلقاً، وذلك كما نقل أنه كان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر (3)، وإذا كره شيئاً رؤي في وجهه (4)، وكتألمه من جرح يصيبه، أو حصول طعم الحلو والحامض في فمه من طعام يأكله، وما يدور في نفسه من حبٍّ وكراهة لأشخاص أو أشياء، مما لا سيطرة له على منعه أو إيجاده، ككراهيته أكل لحم الضب، وكراهيته قاتل حمزة.
ومثل هذا أيضاً ما يفعله في حالات اللاّوعي، كما يقع منه من الحركات وانتقال الأعضاء في منامه، أو غفلته، أو نحو ذلك.
فهذا النوع لا حكم له شرعاً، لوقوعه دون قصد منه صلى الله عليه وسلم، وهو لذلك خارج عن نطاق التكليف، ومن أجل ذلك لا يستفاد منه حكم، ولا يتعلق به أمر باقتداء ولا نهي عن مخالفة.
ومما يستأنس به لصحة هذه القاعدة ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك ولا
(1) فتح الباري، مصطفى الحلبي 3/ 152
(2)
ابن حجر: فتح الباري 2/ 224
(3)
متفق عليه (الفتح الكبير).
(4)
الطبراني في الأوسط (الفتح الكبير).
أملك" (1). والذي لا يملكه صلى الله عليه وسلم هنا هو ميل القلب إلى إحداهنّ أكثر من الأخرى. فهذا لا قدوة فيه، والمطلوب العدل قدر الإمكان.
وقد يقع من الأفعال ما يشتبه فيه أنه اضطراري أو غير اضطراري، فيقع الاشتباه في حكمه على أساس ذلك. ومن ذلك ما ورد عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرَّحَى من البكاء"(2) صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه كان يستدعي البكاء بمناسبته لمقصود العبادة، فيدل على جواز استدعائه، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يغلبه البكاء وهو لا يريده، فلا يدل على جواز استدعاء البكاء. ولا بد لنا أن نفرق في أمر المحبّة والكراهية ونحوهما أيضاً بين نوعين منهما، لكل نوع حكمه:
النوع الأول: المحبّة والكراهية الناشئتان عن تعويد النفس على موافقة الشرع، بمحبة المطلوبات الشرعية، وكراهية الممنوعات، هما فعلان دالاّن على الأحكام، وينبغي الاقتداء بهما. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(3). ففي هذا الحديث، إن صحّ، حثّ على معالجة النفس لتستجيب للدواعي الشرعية، وتتّبع ما جاء به الشرع.
والنوع الثاني: المحبة والكراهية الطبيعيتان، من محبة المستلذّات وكراهية المؤلمات. فهذا النوع هو المقصود هنا، وهو الذي لا قدوة فيه لخروجه عن سلطان الإرادة. ومن أجل ذلك قيّدْنا ما لا قدوة فيه من المحبة والكراهة بـ "ما لا سيطرة له على منعه أو إيجاده".
(1) أحمد والأربعة والحاكم (الفتح الكبير) والنسائي.
(2)
أبو داود 3/ 172 وهذا لفظه والترمذي.
(3)
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (تفسير القرطبي 16/ 167) ولم يسنده إلى شيء من كتب الحديث. وفي الأربعين النووية (الحديث 41) فال النووي: "هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح" وكتاب (الحجة) هو لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي، ورواه الطبراني.