الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن العدد والمقدار
يتضمّن البحث في عدد الفعل ومقداره أموراً، نعقد لكل منها مطلباً:
المطلب الأول
الفعل الواحد، إن كان يمكن عمله بقدر طويل أو قصير، فهل يعتبر طول الفعل وقصره في التأسّي؟.
نقل أبو الحسن البصريّ (1) عن القاضي عبد الجبار أنه لا اعتبار بطول الفعل وقصره في التأسّي. ومقصوده أنه لما ثبت وجوب التأسيّ في أصل الفعل فإن ذلك لا يستلزم وجوب التأسّي في طول الفعل وقصره، ولم يمنع أن يقتدي بطول الفعل وقصره على وجه الاستحباب.
ثم قال أبو الحسين البصري: لقائل أن يقول: يجب اعتبار ذلك -يعني طول الفعل وقصره- بحسب الإمكان، إذا علم دخولهما في الأغراض. يعني إذا علم أن طول الفعل أو قصره مقصود.
فلا شك إذا علم أن القدر مقصود، أنه يقتدى به، ولكن هل يجب لمجرد علمنا أنه مقصود، أولاً يجب إلا إذا علمنا أنه صلى الله عليه وسلم قصد فعله على وجه الوجوب؟.
والفرق بين الأمرين أن المقصود الأول مجرد التعبّد، والمقصود الثاني: التعبّد على وجه الوجوب.
(1) المعتمد (1/ 374)
ولنضرب المثال بسجوده صلى الله عليه وسلم في الصلاة. فإنه يتحقق بوضع الرأس على الأرض لحظة لا يطمئنّ فيها (1)، وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يخففه مع الطمأنينة وأحياناً كان يطيله جداً.
فأما القدر الأول فهو واجب لا شك في ذلك، وهو مجمع عليه، إذ لا يتحقق المأمور به إلاّ بذلك.
وأما القدر الثاني، وهو قدر الطمأنينة فقد اختلف فيه، فقال أبو حنيفة بأن الطمأنينة في الركوع والسجود غير واجبة، أخذاً بالأمر {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} .
وقال الحنابلة والشافعية: الطمأنينة واجبة، بدليلين.
الأول: الفعل النبويّ، فإنه وقع تفسيراً للسجود الواجب، فيدل على أنها مرادة بالأمر. وقد حافظ صلى الله عليه وسلم على الطمأنينة فلم يتركها مرة واحدة.
والثاني: حديث المسيء صلاته، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"اسجد حتى تطمئن ساجداً"(2).
والقول الثاني، وهو قول الحنابلة والشافعية، ارجح، لأن هذه قرائن تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك على سبيل الوجوب، وقاعدة التأسّي تنتج أنه واجب علينا أيضاً، هذا إن اعتبرناه فعلاً مجردّاً. فأما إن اعتبرناه بياناً للأمر فالوجوب أظهر.
وأما القدر الثالث: وهو إطالة السجود بما يزيد على القدر الذي تتحقق به الطمأنينة، فهذا لا يدل على وجوبه دليل. بل هو مستحبّ أخذاً من قاعدة الاستحباب في الفعل المجرّد الذي قصدت به القربة.
والذي نستنتجه من ذلك أنه ينبغي أن ينظر لطول الفعل وقصره نظرة
(1) انظر ابن قدامة: المغني 1/ 500
(2)
حديث المسيء صلاته، رواه البخاري 11/ 549 والترمذي 2/ 208 وقال هذا حديث حسن صحيح.
مستقلة عن أصل الفعل، على أساس قاعدة الفعل المجرّد، فإن علم أنه صلى الله عليه وسلم قصد في الفعل قدراً معيناً على سبيل الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة فالحكم في حقنا كذلك، وإن لم يعلم ذلك فالاستحباب إن ظهر قصد القربة، وإلاّ فالإباحة.
ومن هنا ينشأ القول باستحباب التخفيف في ركعتي الفجر، وفي صلاة الفرائض جماعة، وخاصة عند ظهور حاجة بعض المصلين إلى ذلك، كأن يبكي طفل وأمه مع المصلين. واستحباب تقصير الخطبة وإطالة الصلاة يوم الجمعة، واستحباب الإطالة في صلاة الليل، مع تخفيف الركعتين الأوليين منها. إلى غير ذلك مما ورد ذكره في السنة من مقاديرها.
وكذلك استحباب القدر الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة. والله أعلم.