الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مباحث متنوّعة تتعلّق بالأفعال الصريحة
المبحث الأول الطريق العملي لاستفادة الحكم من الفعل
تعرّض الغزالي لهذه المسألة في المستصفى (1)، فرأى أن المجتهد إذا نقل إليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجب عليه البحث إلاّ عن أمر واحد، هو أنه:"هل ورد الفعل بياناً لخطاب عام، أو تنفيذاً لحكم لازم عام، فيجب علينا اتباعه، أو ليس كذلك فيكون قاصراً عليه صلى الله عليه وسلم. أما إن لم يقم دليل على كونه كذلك، فالبحث عن كونه ندباً في حقه صلى الله عليه وسلم أو واجباً، أو مباحاً، أو محظوراً، لا يجب، بل هو زيادة درجة وفضل في العلم يستحب للعالم أن يعرفه".
وهذا القول من الغزالي رحمه الله مبنيّ على مذهبه في الفعل المجرّد، أنه لا يدلّ على شيء في حقنا، إذ إن مذهبه التوقف في الفعل المجرّد كما تقدم. وهو لازم لمن قال بذلك القول كالباقلاني والرازي، وغيرهم. وهو أيضاً لازم لكل من منع التأسيّ به صلى الله عليه وسلم في أفعاله المجردة من أصحاب قول التحريم، وقول الإباحة على الوجه الذي ذكرناه في موضعه.
وأما أبو شامة فلما كان مذهبه أن الفعل المجرّد يدلّ على الندب، بقطع النظر عن صفة صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نقَل قول الغزالي المتقدم، ثم قال:"على ما اخترناه يبحث (المجتهد) بعدما تحقق أن الفعل ليس ببيان، عن أن فيه قربة أو لا، فإن كان فيه قربة قضى بأنه مندوب للأمة، وإلاّ فهو مباح". يعني على التفصيل الذي ذكره في المباح، من أنه يستحب لنا من وجه.
(1) المستصفى 2/ 51
وهذا القول من أبي شامة مبني أيضاً على مذهبه في أن الفعل المجرّد يدل على الاستحباب في حقنا حتى لو كان قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الوجوب.
أما على القول الذي صار إليه الجمهور في الفعل المجرّد، وهو الذي اخترناه فإن الأمر يختلف.
ونحن نفصل القول في ذلك، فنقول وبالله التوفيق، إن المجتهد يسير في استفادة الحكم من الفعل النبوي، الخطوات التالية بالترتيب:
الخطوة الأولى: أن ينظر: هل الفعل من جملة الأفعال الجبلية ونحوها. فإن كان كذلك، فلا يستفاد في حقنا منه أكثر من الإباحة. وإلاّ:
فالخطوة الثانية: أن يبحث هل هناك ما يمنع تعدية حكم الفعل إلى الأمة، كأن يوجد ما يدلّ على كون الفعل خاصاً به صلى الله عليه وسلم فإن وجد ذلك وقف عنده. وإلاّ:
فالخطوة الثالثة: هل ورد ما يدل على كون الفعل بياناً لخطاب عام، أو تنفيذاً وامتثالاً لحكم عام، فيعلم بذلك. وهو ما ذكره الغزالي. وإلا:
فالخطوة الرابعة: أن يعتقد أن الفعل المجرّد، فليبحث هل ورد ما يدل على حكم الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم، من وجوب أو ندب أو إباحة، فيكون الحكم في حقنا مساوياً للحكم في حقه صلى الله عليه وسلم بناء على قول المساواة، وهو قول الجمهور. وسواء أكان الفعل في العبادات أو غيرها من الآداب والمعاملات والعقوبات وغير ذلك. وقد تقدم بيان طرق معرفة الحكم في حقه صلى الله عليه وسلم.
فإن لم يكن الفعل معلوم الحكم:
فالخطوة الخامسة: أن يعتقد أن الفعل من المجهول الصفة، فلينظر هل هو مما يظهر فيه قصد القربة. فإن كان كذلك حمله على الاستحباب في حقه صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يدل على الاستحباب في حقنا بناء على قاعدة المساواة.
والخطوة السادسة: إن لم يظهر للمجتهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد القربة، فليحمل الفعل على الإباحة في حقه صلى الله عليه وسلم، فيدل على الإباحة في حقنا أيضاً.
والخطوة السابعة: إن تبيّن الحكم في حق الأمة، فلينظر المجتهد، هل وقع الفعل لسبب معيّن، فإن وجد ما يدلّ على ذلك، وكان السبب باقياً، علم ارتباطه بالسبب في حقنا أيضاً. وإن كان السبب زائلاً فلا. وإن جهل السبب فالتأسّي مستحب.
الخطوة الثامنة: لينظر المجتهد بعد ذلك بأي وصف أوقع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفعل، أمن جهة الإمامة العامة، أم من جهة إمامة الصلاة، أم من جهة القضاء. أم غير ذلك من الجهات التي تقدم ذكرها. فبهذا يعلم المجتهد من يلزمه حكم الفعل، من سائر المسلمين. فإن لم تتعيّن جهة ما، فالأصل العموم.
فهذا مسلك بيِّن يتبعه المجتهد في إستفادة الحكم من الفعل النبويّ. وهناك زوايا ومنعطفات أخرى في هذا الطريق، تعلم مما تقدم بيانه. والله الموفق.