الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: اختلاف النقل بين الإطلاق والتقييد:
قد ينقل صحابي فعلاً غير مفصل، كمسحه صلى الله عليه وسلم رأسه وأذنيه في الوضوء. لم يتعرّض الراوي لكونه مسح الأذنين بماء جديد، أو بفضل ما مسح به رأسه. ثم قد ترِد رواية أخرى للصحابي نفسه أو لغيره مفصلة، كما روى أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح أذنيه بماء خلاف ما مسح به رأسه (1).
قال الغزالي: "هذا يزيل الإجمال عن الأول. ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد، والمستحب ماء جديد، فيكون أحد الفعلين على الأقل، والثاني على الأكمل وجعل الغزالي هذا نوعاً من أنواع البيان بالفعل، يعني بيان إجمال الفعل بالفعل"(2).
وقد اعترض أبو شامة على ذلك قائلاً: "أورد الغزالي هذا على أنه نوع من أنواع البيان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عبارة الراوي. والراوي الأول أطلق ولم يبين أنه مسح أذنيه بفضل ما مسح به رأسه، أو بماء جديد. وكلاهما محتمل. فلما نقَل الراوي الثاني أنه مسحهما بماء جديد، تعيّن حمل ذاك المطلق، على هذا المقيد، فقلنا لا بدّ من ماء جديد للأذنين. أما لو صحّ أنه مسح الجميع بماء واحد، فيمكن حمله على الأقل، ويكون الأكمل رواية من أفرد الرأس عن الأذنين بماء جديد"(3). اهـ.
قولنا في ذلك: إن الروايتين إذا أوردت إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة فإما أن يكونا في واقعة واحدة، أو في واقعتين، أو يكون الأمر مبهماً.
أولاً: فإن كانا في واقعة واحدة، يجب حمل المطلق حينئذ على المقيد، وهو إطلاق وتقييد في كلام الرواة. ومثاله وإن لم يكن من باب الأفعال، قصة من (أفطر) في رمضان، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه الكفارة، ورد في رواية أخرى، أن
(1) لم تثبت هذه الرواية، كما في نيل الأوطار 1/ 178
(2)
المستصفى 2/ 52
(3)
المحقق ق 38 أ.
إفطاره كان (بالجماع). فتختص الكفارة به، ولا تجب في الإفطار بالأكل والشرب، إلا قياساً.
ومن أمثلته أيضاً عندي حديث المغيرة بن شعبة في المسح، ففي بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه، وفي أخرى أنه مسح على العمامة، وفي ثالثة أنه مسح على ناصيته وعمامته (1). فإن حديث المغيرة هذا هو ما وصف به وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ذات ليلة لصلاة الصبح.
وقد قال ابن حزم: "بهذا تعلّق المانعون من المسح على العمامة. قالوا: ذكره المسح على العمامة، هو حديث واحد مع الذي فيه ذكر الناصية والعمامة. قال ابن حزم: وهذا خطأ، لأن الوضوء لم يكن مرة واحدة منه صلى الله عليه وسلم فمن ادّعى أن ذلك كله في وضوء واحد، في وقت واحد، فقد دخل تحت الكذب، والقول بما لا يعلم. وهذا لا يحل لمسلم"(2).
أقول: قوله هذا مردود، وهو من تسرّعاته المعهودة، عفا الله عنا وعنه، فإن سياق القصة يدلّ على أن الحادثة واحدة. وذلك يمنع صحة الاستدلال بهذا الحديث على الاجتراء في الوضوء بمسح بعض الرأس، كما فعل ابن قدامة (3) أو بمسح العمامة وحدها. ولا بدّ لإثبات ذلك من أدلة أخرى غير حديث المغيرة.
ثانياً: وإن كان في واقعتين لم يجب حمل المطلق على المقيد، فإن الواقعة التي أطلق فيها ذلك يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعل فيها كما فعل في الأخرى. لكن الراوي أطلق ولم يبين. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ترك فيها ما فعله في الثانية، فيكون ذلك من باب التعارض بين الفعل والترك، ويكون ذلك نسخاً، أو يكون الأقل واجباً والزائد مستحباً. وسيأتي في باب التعارض إن شاء الله.
(1) ذكرت الروايات الثلاث في جامع الأصول 8/ 130 أما ذكر الرأس وحده فعند البخاري ومسلم. وأما ذكر العمامة وحدها فعند الترمذي وحده. وأما الجمع بين العمامة والناصية فعند مسلم وأبي داود والنسائي.
(2)
الإحكام 1/ 334
(3)
المغني 1/ 125
ولا يترجح أحد المسحين إلاّ بقرينة تدل عليه.
وقد يصح أن يقال: الأولى الاحتمال الثاني ليجوز كلا الأمرين، دون الأول، لأنه يمنع الترك ويدل على الوجوب، والأصل عدمه. والله أعلم.
ثالثاً: وإن أبهم الأمر فلم يعرف أنه في واقعة واحدة أو واقعتين. فالاحتمالان واردان أيضاً.
وعلى هذا فإن ما عيّنه أبو شامة، مما نقلناه عنه آنفاً، غير متعيّن. ويكون كلام الغزالي من أن في مسألة مسح الأذنين احتمالين، هو أصوب. وبالله التوفيق.
والحاصل: أن الأخذ بالمقيّد لا إشكال فيه، وأما الأخذ بالمطلق على إطلاقه فيمتنع إن كانا في واقعة واحدة، وإلا فيحتمل أن يصح، ويحتمل أن لا يصح. والله أعلم.