الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس قول الوجوب
مراد القائلين بالوجوب إن ما ثبت لدينا من الأفعال النبوية المجردة يجب علينا أن نفعل مثله في الصورة، سواء علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وجوباً أو ندباً أو إباحة، أو جهلنا حكمه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم. وبعض القائلين به خصه بالمجهول الصفة من الأفعال (1).
وهذا القول يوافق قول الندب في اعتبار الموافقة في صورة الفعل دون حكمه. ويخالف في الحكم المستفاد في حقنا.
وقد استُدلّ لهذا القول بأدلة عقليّة وقرآنية وسنّيّة وإجماعية.
الدليل الأول: أن الفعل النبوي يحتمل أن يكون حكم مثله في حقنا الوجوب أو الندب أو الإباحة. والاحتياط أعلى المراتب، فوجب الأخذ به احتياطاً لئلا نترك ما وجب علينا، كصيام الثلاثين من رمضان إذا لم يُرَ الهلال، يحتمل أن يكون من شوّال، ومع ذلك نصومه احيتاطاً لئلا يكون من رمضان.
وأجيب عن ذلك (2) بأن الاحتياط يمكن أن يقال به إذا خلا عن احتمال الضرر. وما نحن فيه يحتمل أن يكون الفعل حراماً على الأمة فيكون ضرراً.
قال الآمدي: وهذا الجواب غير صحيح، فإنه لو غمّ الهلال ليلة الثلاثين
(1) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 382
(2)
نقل الشوكاني هذا الجواب وأقره (إرشاد الفحول ص 36)
من رمضان، يجب صومه احتياطاً للواجب، وإن احتمل أن يكون حراماً بكونه يوم العيد (1). وقال مثل ذلك صاحب تيسير التحرير (2).
والجواب الصحيح أن يقال: إن الاحتياط الواجب هو في وجوب أداء ما ثبت وجوبه وشكَّ في أدائه، كمن نسي صلاة من الخمس، ولم يعلم عينها، يجب عليه أن يصلي الخمس احتياطاً. وفي ما كان ثبوته هو الأصل، كصوم الثلاثين من رمضان، إذ الأصل إنه من رمضان وإن احتمل أن يكون من شوال.
أما ما لم يثبت وجوبه والأصل عدم وجوبه، فلا يصح إيجابه احتياطاً كصوم الثلاثين من شعبان (3).
الدليل الثاني: قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا حقاً وصواباً، فاتباعه حق وصواب. وترك الحق والصواب باطل وخطأ.
والجواب أن ما يفعله عُلِمَ انقسامه إلى واجب ومندوب ومباح. فما فعله على سبيل الندب فالحقّ إيقاعه على سبيل الندب، وذلك هو الحق والصواب وكذلك يقال في المباح.
الدليل الثالث: قالوا: إن الفعل آكد في البيان من القول، فإذا أفاد الأمر الوجوب، فالفعل أولى.
ويجاب عن ذلك بأنه يجوز أن يكون الفعل في بعض الأحوال أقوى بياناً، ولكن موضع ذلك هيئات التفاصيل، فأما قوة الطلب وتحتّمه فليس الفعل موضوعاً لذلك، بخلاف القول، فإن القول الآمر موضوع للإيجاب، فبطل كون الفعل أولى (4).
الدليل الرابع: وهو شبيه بما تقدم، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة عام
(1) الآمدي: الإحكام 1/ 263
(2)
3/ 126
(3)
ابن الحاجب والعضد: منتهى السول وشرحه (2/ 24)
(4)
أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 378. أبو الخطاب: التمهيد 91 أ.
الحديبية بالفسخ فلم يفسخوا، حتى غضب وقال لأم سلمة: أما شعرت أنني أمرتهم بأمر فإذا هم يتردّدون. فأشارت عليه بأن يخرج فينحر ويحلق ولا يكلمهم. فخرج فنحر وحلق. فلما رأوه فعل ذلك نحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً من الغم.
قالوا: فلولا أن الصحابة علموا أن فعله أشدّ استيجاباً لمثله منهم، لما ترددوا في طاعة الأمر، ثم انصاعوا لدلالة الفعل.
والذي نقوله في الجواب: إنهم استجابوا لاجتماع الفعل مع القول، إذ مجموعها أقوى من القول وحده كما لا يخفى.
وجواب آخر أجاب به الآمدي (1): إن ترددهم كان رجاء أن ينزل أمر ينسخ الأمر بالإحلال، فلما حلق هو صلى الله عليه وسلم يئسوا من ذلك فحلقوا.
وأجاب بجواب آخر: أن فعله وقع بياناً لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" فوجب من حيث هو بيان.
وهذا الجواب غير مرضي، لأنه إذا اجتمع القول والفعل في البيان وتقدم القول فهو البيان اتفاقاً، كما تقدم. فالبيان هنا هو القول اتفاقاً، والفعل مؤكِّد للبيان وهذا يصحح ما أجبنا به.
هذا إنْ سلّمنا إن هنا ما يحتاج إلى البيان، ولكن الصواب عدم التسليم بذلك، لعدم وجوده أصلاً، لأن آية الإحصار بينة وهي قوله تعالى:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} . وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" كان في حجة الوداع بعد الحديبية بأعوام.
الدليل الخامس: قوله تعالى: {فاتبعوه} فالاتباع له صلى الله عليه وسلم واجب بدلالة هذه الآية، والاتباع الامتثال للقول، والإتيان بمثل الفعل.
(1) الإحكام 1/ 261
وقد أجاب ابن حزم بأن الاتّباع هو طاعة الأمر. وهو جواب غير مرضي. فإن بين الطاعة والاتباع فرقاً لا يخفى.
والجواب الصحيح أن يقال: مماثلة الفعل تقتضي المماثلة من جميع الوجوه، فهي الواجبة. وليس من المماثلة والاتباع أن نفعل واجباً ما فعله ندباً أو إباحة.
وبهذا أجاب عبد الجبار والآمدي (1).
ولم يرتض ابن الهمام هذا الجواب بالنسبة إلى الفعل المجهول الصفة، ورأى أن الصواب في الإجابة أن يقال: الأمر بالاتباع غير محمول على عمومه، إذ لا يجب قيام وقعود وسائر الأفعال الجبليّة. وليس ثم مخصص معيّن، فتعين حمله على أخصّ الخصوص من معلوم صفة الوجوب، ففيه خاصة يجب الاتباع (2).
وعندي أن قوله: (وليس ثم مخصص معين) مردود، لما تقدم في فصل الأفعال الجبلية. ولذا فجواب الآمدي أولى.
الدليل السادس: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} قالوا: في هذه الآية تحذير من المخالفة، لأن معناها: من كان يرجو الله واليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة. ومفهومها. أن من لم يتأسّ به صلى الله عليه وسلم فليس ممن يرجو الله واليوم الآخر.
وهذا دال على الوجوب، فلا بد لنا من فعل مثل ما فعل، ولا يهمنّا على أيّ وجه فعل.
والجواب بتسليم دلالة الآية على وجوب التأسّي، ومنع أن يكون معنى التأسّي الموافقة في الصورة دون الحكم، بل التأسّي هو الموافقة في الصورة مع الاتفاق أيضاً في الحكم.
الدليل السابع: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
(1) الآمدي: الإحكام 1/ 257 عبد الجبار: المغني 17/ 260
(2)
تيسير التحرير 3/ 123
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (1) قالوا: والفعل من الأمر، بدلالة قوله تعالى:{وما أمر فرعون برشيد} أي أحواله وشأنه وأفعاله. {إليه يرجع الأمر كله} {وإذا كانوا معه على أمر جامع} قالوا: فلما كان فعله من أمره لم تجز مخالفته.
وأجيب عنه بأن الأمر في الآية المستدل بها هو الأمر بالقول، بدليل قوله تعالى في أول الآية:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} فما عبّر عنه أولاً بالدعاء، عبّر عنه أخراً بالأمر.
و (الأمر) في اللغة يأتي لمعنيين، الأول: القول الطالب، والثاني: الحال والشأن، ومنه الأفعال. والعرب قد فرّقوا بينهما. فقالوا في جمع الكلمة بالمعنى الأول (أوامر)، وفي جمعها بالمعنى الثاني (أمور). فالأمور غير الأوامر. والأمر واحد الأمور، غير الأمر واحد الأوامر. فـ (الأمر) مشترك (2). والقرينة تبيّن أن المراد به في الآية القول دون الفعل.
وأجاب القاضي عبد الجبار بأنه على تقدير أن الفعل داخل في مسمى الأمر، أو أن الأمر في الآية بمعنى الفعل، فالنهي عن مخالفته يقتضي الموافقة، ولا يكون أحدنا موافقاً إلا إذا فعل على الوجه الذي فعله عليه صلى الله عليه وسلم (3) وهو جواب سديد.
الدليل الثامن: قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} وفعله هو مما آتاناه، فكان الأخذ به واجباً.
والجواب عندنا أن هذه الآية من سورة الحشر، نزلت في شأن مال الفيء، أمَرَهم الله تعالى أن يقبلوا ما أعطاهم رسول الله منه (4). وأن يكفوا عما نهاهم عن
(1) سورة النور: آية 63
(2)
نقل صاحب البحر المحيط (1/ 291 ب) في (الأمر) خمسة مذاهب: 1 - أنه حقيقة في القول والفعل 2 - حقيقة في القول مجاز في الفعل- الحنفية 3 - مشترك بينهما- الشريف المرتضى 4 - حقيقة في القول والشأن والطريق دون آحاد الأفعال 5 - لا يتضمن الفعل أمراً- الشيرازي.
(3)
المغني 17/ 262، 263
(4)
هذا تفسير الحسن والسدي للآية كما في تفسير القرطبي 18/ 17
أخذه. فالإيتاء بمعنى الإعطاء، والأمر بأخذ المال أمر إباحة، وليس أمرَ إيجاب قطعاً. فلا صلة للآية بقضية التأسّي بالأفعال النبوية.
والتفسير الآخر للآية هو ما قاله ابن جريج من أن معناها: ما آتاكم الرسول من طاعتي فاقبلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه.
فعلى هذا التفسير، يجاب عن استدلالهم، بأن الإيتاء هنا بمعنى الأمر (1)، بدليل مقابلته بما بعده (2){وما نهاكم عنه فانتهوا} وبدليل أن القول يتعدى إلينا، فيكون بمعنى العطية (3). ومثله قوله تعالى {خذوا ما آتيناكم بقوة} أي افعلوا ما أمرتم به.
ولو سلمنا أن المؤتى يصدق على الأفعال، فذلك لا يدل على وجوب جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم، بل على اتِّباعها على ما هي عليه من الأحكام.
الدليل التاسع: الإجماع، فقد رُوي عن الصحابة، "أنهم لما اختلفوا في الغسل من الوطء دون إنزال، أرسل عمر إلى عائشة رضي الله عنها فسألها عن ذلك، فقالت: فعلتُه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا. فأخذ عمر بذلك. وقال: لا أسمع أحداً قال بعد هذا: الماء من الماء، إلاّ جعلته نكالاً"(4). وأجمعت الأمة على ذلك بعده.
فكان اكتفاؤهم في إيجاب ذلك بمجرد الفعل، دليلاً على أنهم مجمعون على أن الفعل دليل الوجوب.
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة:
1 -
إن ذلك فعل بياني وليس فعلاً مجرداً (5)، والفعل إذا كان بياناً لواجب
(1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 36
(2)
أبو الحسين البصري المعتمد 1/ 381
(3)
القاضي عبد الجبار: المغني 17/ 264
(4)
الطحاوي في مشكل الآثار بسند فيه ابن لهيعة (وهو ضعيف) وأصل الحديث عند مسلم (الزركشي: الإجابة ص 78) قلت: هو عند الشافعي وأحمد بسياق آخر (انظر كنز العمال 9/ 325).
(5)
العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 24، الصنعاني: هداية العقول 1/ 467
فهو يدل على الوجوب. ووجه كونه بياناً أن الله تعالى قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} والجنابة، وإن كانت معلومة المعنى لغة إلا أن معرفة المقدار الموجب للغسل من العلاقة الجنسية أمر مبهم، فبُيِّن بالفعل.
وعندي في هذا الجواب نظر، لأنه إذا كان قد سبق قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الماء من الماء" فقد حصل البيان به، والفعل الزائد مستحب أو خاص حسب ما تقضى به القواعد الأصولية. فلعله صلى الله عليه وسلم يكون قد اغتسل استحباباً أو زيادة في التنظف.
2 -
وأجيب أيضاً: بأنهم أوجبوه لكونه شرطاً في صحة الصلاة، فيكون مأموراً به، لدخوله تحت الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"(1). وليس هذا الجواب بمرضي أيضاً. وقد تقدم القول في دلالة حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي".
3 -
وأجيب أيضاً أن عائشة لما قالت ذلك في معرض الاحتجاج على ما يوجب الغسل، وفصله مما لا يوجبه، قصدت بالإخبار به الأخبارَ عن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراه واجباً، فوجب تبعاً لذلك. فليس ذلك فعلاً بيانياً، وإنما هو فعل مجرد قام دليل وجوبه في حقه صلى الله عليه وسلم، فيجب في حقنا، على قول المساواة الآتي.
4 -
وأيضاً: لعلها أخبرتهم بما كانت ترويه من قوله صلى الله عليه وسلم (2): "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل". فإن أبا موسى الأشعري، لمّا اختلف المهاجرون والأنصار في ذلك، سألها، فروت له قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل". هذه رواية مسلم. وفي الموطأ (3)، قالت:"إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل".
فهذا ما ينبغي أن يعتمد في الجواب عن هذه الشبهة (4).
(1) العضد على ابن الحاجب 2/ 24
(2)
رواه مسلم ومالك والترمذي.
(3)
جامع الأصول 8/ 160
(4)
على أن دعوى الإجماع في هذا مردودة.