الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: الكبائر:
القول فيها كالقول في النوع الثاني المتقدم أعلاه سواء.
رابعاً: الصغائر:
أما صغائر الخسّة فهي كالكبائر ولا فرق.
وأما ما عداها كالنظرة، والكلمة اليسيرة من السب ونحوه عند الغضب، والضربة بغير حق، فقد قال الغزالي:"وأما الصغائر ففيه تردد بين العلماء، والغالب على الظن وقوعه، وإليه يشير بعض الآيات والحكايات"(1).
وأجازه كثير من المعتزلة والأشاعرة (2) وهو المعتمد، خلافاً للإمامية والحنفية (3) وبعض متأخري المتكلمين (4). ويتدارك بالتوبة أو الإنكار من جهة الله تعالى.
خامساً: الخطأ في العمل بالشريعة، والإفتاء:
أي في استنباط الأحكام وفي تطبيق الأحكام على الوقائع، في حق نفسه صلى الله عليه وسلم، وحق غيره، من غير تعمّد للمخالفة، لأن تعمّد المخالفة داخل في الصغائر أو في الكبائر، وحكمها قد تقدم.
والخطأ مبني على جواز الاجتهاد وعدمه، فمن قال بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم قال بإمكان صدور الخطأ تأوّلاً، وينبّه عليه. هذا على مذهب من يقول: المصيب واحد. لا على مذهب من يقول: كل مجتهد مصيب (5).
وصاحب جمع الجوامع صوّب أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد، ولكن لا يخطئ (6)، مع قوله: إن المصيب في الاجتهاد واحد. وهذا الجمع بين الأمرين مستبعد.
(1) المنخول ص 223
(2)
المواقف 8/ 265
(3)
تيسير التحرير 3/ 21
(4)
انظر أيضاً: إرشاد الفحول ص 34
(5)
المستصفى 2/ 49
(6)
جمع الجوامع للسبكي وشرحه للمحلى 2/ 387، 389
والقول بإمكان وقوع الخطأ بالتأول، مع التنبيه عليه، أصوب. وهو مذهب الحنفية (1)، وقد اختاره الآمدي، ونقله عن الحنابلة وأصحاب الحديث وجماعة من المعتزلة، وأكثر المتكلمين (2).
ومن أدلة وقوعه قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقصة استغفاره صلى الله عليه وسلم للمشركين، وقيامه على قبور المنافقين.
ولما ورد في قصة أسرى بدر (3)، من أمره صلى الله عليه وسلم باستئسار الأسرى، ثم مفاداتهم بإشارة أبي بكر رضي الله عنه، حتى نزل قول الله تعالى:{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (4).
ونحن نرى أن الخطأ الذي وقع، على القول بإمكان صدوره، أن الله تعالى أمر في سورة القتال في حق العدوّ قبل الإثخان بأمر واحد محدّد:{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق} (5) وحالة القتال في بدر كانت داخلة في هذا الحكم، إذ كان المسلمون فقراء، مستضعفين، محتقرين، لا يرهبهم أحد من العرب وخاصة أهل مكة. وكان ذلك يؤلّب العرب عليهم، ويجعلهم مطمعاً لكل أحد. فكان تأسيس الهيبة والرهبة، التي تكف العدوان عنهم، لا بد فيه من ضرب الرقاب وامتناع الأسر حتى يحصل الإثخان. وكان شدّ الوثاق، وتجميع الأسرى، مخالفاً للنص. فكان الأسر ومفاداة الأسرى اجتهاداً، وكان الحامل عليه ما قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله هم أهلك وعشيرتك، ولعلّ الله أن يهديهم؛ وما أشار إليه (تريدون عرض الدنيا) أي الفدية. وهذا عمل بالقياس أو المصلحة في مقابلة النص. ومن أجل ذلك وقع العتاب فيه، واستحق العاملون به العقاب. قال الله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق
(1) كشف الأسرار علي البزدوي 3/ 929 وتيسير التحرير - كتاب الاجتهاد.
(2)
الأحكام 4/ 291
(3)
روضة الناظر بتعليق بدران 2/ 421
(4)
سورة الأنفال: آية 68، 69
(5)
سورة محمد (القتال): آية 4
لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} ولو كان الأمر مجرد خطأ في الاجتهاد المأذون فيه، لما استحق المجتهد العقوبة، لأن الأدلة الشرعية قد قررت أن المجتهد معذور، بل هو مثاب على اجتهاده.
ولا يعني قوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} نسخ آية تحريم الأسر قبل الإثخان، بل هي باقية ثابتة، تؤيّدها العلوم العسكرية، واستقراء الوقائع التاريخية المعلومة عند نشأة الدول الجديدة. ولكن الذي وقع هو تسويغ التعاقد الدولي الذي تمّ مع أهل مكة. لأن العقد على المفاداة كان قد وقع، وكان في إلغائه ضرر كبير يلحق سمعة الدولة الإسلامية، وينفِّر عنها المقبلين عليها، ويمكّن للدعاية المعادية من التأثير على أهلها (1).
وقد احتجّ مانع صدور الخطأ عنه صلى الله عليه وسلم بأمور:
الأول: أن اجتهاد أهل الإجماع معصوم من الخطأ، فاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالعصمة من الخطأ.
وأجيب عن هذا بأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم أولى بالصواب من اجتهاد كل واحد من أهل الإجماع على انفراده. ذكره الرازي الجصاص (2).
وأجيب أيضاً، بأنه لا مانع من أن تختص الأمة برتبة بسبب اتباعها لنبيها، وله صلى الله عليه وسلم من الفضائل من النبوّة وغيرها، وأصل العصمة، ما يرجح به على الأمة. ونظّروا لذلك بالإمام الأكبر، لا يلزم أن يكون له رتبة القضاء، وإن كانت رتبة القضاء مستفادة منه، ولا يعود ذلك عليه بنقص أو انحطاط رتبة.
وإنما جاز وقوع الخطأ منه، لأجل مصلحة تشريع الاجتهاد، والتشاور،
(1) هذا المعنى الذي أخذنا به في هذه الواقعة، وجدنا الشيخ عبد الرحمن الجزيري قد أخذ به في مقال له بمجلة الأزهر مجلد سنة 1356 ص 680. وقال السيد رشيد رضا "توجه العتاب إليهم، بعد بيان سنة النبيين في المسألة، الدال بالإيماء على شمول الإنكار والعتاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله". (تفسير النار 10/ 86).
(2)
أصول الجصاص 220 ب.
واستنباط الأحكام، ووراء ذلك الوحي يصحح ما وقع من الخطأ، بخلاف الإجماع بعده صلى الله عليه وسلم (1)، فليس هناك وحي يصححه.
الثاني: يلزم على إجازة الخطأ، أن الصحابة كانوا مأمورين باتباع جائز الخطأ. وذلك باطل.
وأجيب بأن بطلان ذلك ممنوع، بدليل الأمر بطاعة الأئمة وأولي الأمر في اجتهاداتهم، مع عدم عصمتهم من الخطأ.
الثالث: أنه يلزم، على إِجازة الخطأ، الشك فيما يقوله صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد، وذلك يخلّ بمقصود البعثة.
وأجيب عن ذلك بأن الشك في ما يصدر عن اجتهاد لا يخلّ بمقصود البعثة.
إنما الذي يخلّ بمقصودها الشك في نفس الرسالة (2). وقد عهد من الصحابة مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما علموا أنه صدر عن اجتهاد، كما فعل الحباب بن المنذر، إذ قال: يا رسول الله أهذا منزلٌ أنزلَكَهُ الله، ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: ليس هذا لك بمنزل
…
إلخ الحديث (3). وكاعتراض عمر لصلاته صلى الله عليه وسلم على كبير المنافقين عبد الله بن أبيّ. وقد تقدمت.
فالأصح إذن جواز وقوع الخطأ. كما أشرنا إلى ذلك، مع عدم الإقرار عليه.
(1) بتصرف عن تيسير التحرير 4/ 191
(2)
تيسير التحرير 4/ 190
(3)
سيرة ابن هشام في قصة بدر.
انظر الشفاء 2/ 144 وتيسير التحرير 3/ 263 وانظر أيضاً ابن دقيق العيد، الأحكام في شرح عمدة الأحكام 1/ 252. وقد نسب صاحب تيسير التحرير إلى الحكماء أن السهو زوال الشيء من الذاكرة مع بقائه الحافظة، والنسيان ذهابه من الذاكرة والحافظة كلتيهما. فالنسيان عندهم أعمق أثراً.