الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الطرق التي يمكن بها معرفة النص الممتثل
هي كما يلي:
الطريقة الأولى: القول من النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله لما صلّى على ابن أبيّ كبير المنافقين:"إن الله خيّرني فاخترت، ولأزيدن على السبعين". يشير إلى قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم
…
} الآية.
ومن هذا أن يخبر أن الله تعالى قد أمره بفعلٍ فَعَله، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم"(1). أو بتركٍ ترَكَه، كقوله صلى الله عليه وسلم في ترك قتل المخنثين:"نهيت عن قتل المصلين"(2).
الطريقة الثانية: أن يفعل الفعل بعد نزول الأمر مباشرة، بحيث لا يخفى أنَّ فعلَه امتثال لذلك الأمر النازل، وخاصَّة إن كان سبب النزول متعلّقاً بذلك. كآية:{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (3). نزلت في أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من بني شيبة، فلما نزلت أعاده إليهم وقال:"اليوم يوم وفاءٍ وبرّ"(4).
ومثاله أيضاً آية الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه فخيّرهن (5).
وشبيه بهذا أن يبيّن الصحابي الراوي ذلك، كما قالت عائشة:"ما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلاّ يقول فيها: سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"(6) وفي بعض الروايات قالت
(1) متفق عليه (الفتح الكبير).
(2)
رواه أبو داود 13/ 276 وانفرد به وفي سنده مجهول. وحسنه في (صحيح الجامع الصغير) من رواية الطبراني بلفظ "نهيت عن المصلين".
(3)
سورة النساء: آية 58
(4)
سيرة ابن هشام بتحقيق مصطفى السقا وزميليه ط ثانية 412/ 2 وتفسير القرطبي 356/ 5
(5)
سورة الأحزاب: آية 28
(6)
البخاري (إحكام الأحكام لابن دقيق) 1/ 296
عائشة: "يتأوَّل القرآن". وقد بيّن ابن دقيق العيد (1) أن هذا فيما كان من فعله بعد الفتح، إذ به يتمّ الأمر، أما ما قبل الفتح فما فعله من ذلك يكون فعلاً ابتدائياً.
الطريقة الثانية: أن توجد مناسبة ومطابقة بين الفعل ونصّ معين. قال أبو الحسين البصري: "أما ما يعلم به أنّ فعله أو تركه امتثال لدلالة نعرفها فهو أن يكون مطابقاً لبعض الأدلة التي نعرفها"(2).
ثم قد تكون المناسبة بيّنة مقبولة، وقد تكون خفية فيكون في قبولها نظر، وذلك على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن يكون ذلك بيّناً وواضحاً تمام الوضوح، بحيث لا يخفى ولا يحتاج إلى تطلب الدليل عليه. ومثاله سجوده صلى الله عليه وسلم وركوعه في الصلاة، هو امتثال لآيات الأمر بالركوع والسجود. ومثل طوافه صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع يوم النحر، هو امتثال لآية {وليطوّفوا بالبيت العتيق} .
ثم قد تكون المناسبة خفية يقل التفات العالم إليها، فإذا نبِّه إلى ذلك أقرَّ به، ولم يشكَّ فيه، فيكون من هذه الدرجة، ومثاله ما ورد (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح في حجة الوداع مئة ناقة، أخذ من كل ناقة بضعة، فجعدت في قدر وطبخت فشرب من مرقها، فهو تنفيذ لآية {فكلوا منها} .
الدرجة الثانية: أن يكون الفعل متردِّداً بين أن يكون امتثالاً لآية معيّنة أو يكون فعلاً مبتدأ.
والتردد فيه ناشئ من صلاحيته ليكون امتثالًا لتلك الآية نظراً لوجود التناسب، مع إمكان أن لا يكون امتثالًا لها، بل يكون فعلاً ابتدائياً مجرداً.
وقد نقل السرخسي عن الحنفيّة أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو قوله إذا ورد موافقاً لما
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/ 299
(2)
المعتمد 1/ 386
(3)
رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع (جامع الأصول 4/ 240)
في القرآن يجعل صادراً عن القرآن. قال: والشافعية يجعلونه مبتدأ حتى يقوم الدليل على خلافه (1). قال: وعلى هذا فبيانه صلى الله عليه وسلم التيمّم في حق الجنب صادر عما في القرآن. وبه يتبيّن أن المراد بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} الجماع دون المسّ باليد وهم -يعني الشافعية- يجعلون ذلك بيان حكم مبتدأ، ويحملون قوله:{أو لامستم} على المس باليد، لأنه يحتمل أن يكون صادراً عما في القرآن، ويحتمل أن يكون شرع حكم مبتدأ، وهو في الظاهر غير متصل بالآية، فيحمل على أنه بيان حكم مبتدأ باعتبار الظاهر، لما فيه من زيادة الفائدة.
وقال أبو شامة: "إذا فعل صلى الله عليه وسلم فعلاً يوافق ما ورد به القرآن العزيز كالوضوء والاغتسال والصيام فإن ذلك يكون تنفيذاً لما أمر به"(2) وقال القاضي أبو بكر (3): "يجوز مع ذلك أن يكون فرضاً ابتدأ به، وما يلزمنا خاصة، أو يلزمنا وإياه، فعلٌ آخر". فلا بد من إشعار لنا بأنه فعله اتّباعاً لحكم الآية، وإلاّ فجواز ما قلناه قائم:"قال أبو شامة وفي هذا الكلام نظر"(4).
وهذا المثال (5) هو من أفراد الفعل البياني، ولكن القول في الامتثالي من نفس الباب، لا فرق في ذلك.
وأما أبو يعلى الحنبليّ فإنه يرى أن الظاهر في الفعل الموافق للآية أنه امتثال لها. قال: "لأنه صلى الله عليه وسلم لا يترك فعلًا أوجبه الله عليه، أو ندبه إليه". وهو بذلك يوافق ما نقله السرخسي عن الحنفية.
والذي نراه أن قول الحنفية ومن وافقهم في ذلك أولى بالصحة من قول من
(1) ينقل عن الشافعي أنه قال: "ما سئل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه". فإن صح هذا النقل كان مخالفاً لما نقله السرخسي عن الشافعية. فلينظر وليحرر.
(2)
البحر المحيط للزركشي 2/ 252 ب.
(3)
هو الباقلاني.
(4)
أبو شامة: المحقق ق 5 ب، 37 أ.
(5)
المقصود مثال التيمم.