الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السَّادسُ الفعل البياني
تقدم في الفصل الأول أن البيان بالفعل جائز وواقع. ويهمنا هنا أن نذكر ما يستفاد من الأحكام من الفعل الواقع بياناً.
وقد قدمنا أن مرادنا بالفعل البياني، ما وقع بياناً للمشكل من مجمل وغيره مما ورد في القرآن وتكفلت السنة ببيانه، وهو الذي نقصده هنا أيضاً، أما الفعل الواقع بياناً ابتدائياً فهو من الفعل المجرد، وسيأتي ذكره في الفصل التالي إن شاء الله.
جهات الفعل البياني:
للفعل البياني ثلاث جهات، يستفاد من كل منها نوع من الأحكام:
الجهة الأولى: جهة أنه امتثال للأمر أو النهي في العبادة، فإذا بيّن صلى الله عليه وسلم آية الحج بأن حج وقال لهم:"خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" فإن حجّه في حدّ ذاته امتثال لما أوجب الله عليه من الحج، ويجزيء عنه، فيسقط عنه الفرض بذلك.
ويعترض هنا سؤال، وهو أنه هل يمكن أن يتجرّد الفعل البيانيّ عن جهة الامتثال هذه، فيتخلّص بياناً؟.
وصورة ذلك أن يأتي صلى الله عليه وسلم بفعل هيئته هيئة العبادة، وهو لا يقصد العبادة، وإنما يقصد مجرد التعليم، كما يفعله المعلّمون أحياناً من أداء صورة الصلاةِ مثلاً، على سبيل التمثيل لطلبتهم، دون أن يقصدوا الصلاة.
يفهم من كلام البناني (1) أنه يرى أن البيان والامتثال "يحصل بكل منهما الآخر" فظاهر هذا أنه لا يتصوّر انفصال الفعل البيانيّ عن الامتثال.
وقد ورد في حديث عند ابن ماجه والبيهقي، أنه النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال:"هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به". ثم توضأ مرتين مرتين، وقال:"من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين". ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال:"هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". قال القاضي حسين من الشافعية: من أصحابنا من قال: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوضوءات في مجالس، لأنه لو كان في مجلس واحد لصار غسل كل عضو ست مرات، وذلك مكروه.
قال: ومنهم من قال: كان ذلك في مجلس واحد للتعليم، ويجوز مثل ذلك للتعليم.
قال النووي: "ظاهر رواية ابن ماجه أنه كان في مجلس واحد. وهذا كالمتعين، لأن التعليم لا يكاد يحصل إلا في مجلس واحد"(2). اهـ.
فالوضوء الأخير من الثلاثة كان تمثيلاً لمجرد البيان. فإن صحّ الحديث كان دليلاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل أحياناً لمجرد البيان.
ومثال آخر: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمّار بن ياسر حين أراد أن يعلمه التيمم: "إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا .. " الحديث. فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم كان متوضئاً وأن ما فعله من التيمّم صوري. وحتى لو لم يكن متوضئاً فالظاهر أنه كان بالمدينة، والتيمّم للحاضر لا يجزئ.
ومن جهة أخرى، قد تنفرد جهة الامتثال، فيكون الفعل امتثالاً مجرداً من دون أن يكون بياناً لشيء. ومن ذلك ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله في خلواته مما لا يطّلع عليه أحد من الأمة "لأن ما أريد به البيان يلزم إظهاره"(3).
(1) حاشية شرح جمع الجوامع 2/ 98
(2)
النووي: المجموع 1/ 471
(3)
الغزالي: المستصفى 2/ 28
وما كان الممتثل بيّناً بنفسه كغسل اليدين في الوضوء.
أو سبق بيانه بقول أو فعل، كما بيّن المواقيت بصلاته يومين متواليين، فصلاة اليوم الثالث ليست بياناً للوقت.
الجهة الثانية: جهة أنه امتثال لما أمر به من البيان. وهو من هذه الجهة واجب أو مستحب كما تقدم. وقد يختلف حكم الفعل الواحد من هاتين الجهتين، فيكون مندوباً من حيث إنه امتثال للأمر بعبادة مندوبة، واجباً من حيث إنه امتثال للأمر بالبيان، كما لو بيّن بفعله صلاة مندوبة.
والقدوة حاصلة بأفعاله صلى الله عليه وسلم من هذه الناحية. والمقتدي به فيها هم أهل العلم والدعوة، والقائمون مقامه في بيان الأحكام للأمة، وليس العوام من لا علم عنده.
ولم يزل القائمون على الدعوة والتربية يتأسّون به صلى الله عليه وسلم في كيفية بيانه للأحكام من انتهاز الفرص لها، والتخول بالموعظة، والبداءة بالأهم، والتدرج في البيان، إلى غير ذلك من النواحي التي يذكرها الكاتبون في مباحث التربية الإسلامية، ومباحث الدعوة.
وينظر حكم الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في كيفيات البيان في مبحث (الفعل الامتثالي).
الجهة الثالثة: جهة ما يحصل بالفعل من البيان، فيعلم به تفاصيل الفعل الذي أمرنا به، ويعلم أنه واجب في حقنا أو مندوب أو مباح، وذلك بتعلقه بما هو بيان له، فإن تعلق بآية دالة على الوجوب، دلّ على الوجوب، وإن تعلق بآية دالة على الندب دلّ على الندب، وإن تعلق بما دل على الإباحة دلّ على الإباحة، كما سيأتي إن شاء الله.
وهذه الجهة هي المرادة غالباً في كلام الأصوليين عند ذكرهم الفعل البياني.