الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنه شرائع وضبط للعبادات والاتفاقات وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد واجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي، لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرّر رأيه على الخطأ.
ومنه حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقّتها ولم يبيّن حدودها
…
والثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
فمنه الطبّ، ومنه باب قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالأدهم الأقرح"(1) ومستنده التجربة.
ومنه ما فعله صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة، وبحسب الاتفاق دون القصد
…
ومنه ما ذكره كما كان يذكره قومه كحديث أم زرع.
ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش، وتعيين الشعار
…
ومنه حكم وقضاء خاص. وإنما كان يتّبع فيه البينات والأيمان". اهـ.
وهو تقسيم جيد وتحديد واضح. وسوف نفصل القول في مثل ذلك في ما يتعلق بالأفعال النبوية في ما نستقبله من هذا البحث إن شاء الله.
منزلة السنة من القرآن:
يتبيّن مما تقدم أن في منزلة السنة في القرآن ثلاثة أقوال:
الأول: أن القرآن مقدّم في الرتبة على السنة، فلا يُنْسخ القرآن بالسنة. وقد
(1) أي من الخيل، والأدهم الأسود، والأقرح الذي في جبهته بياض دون الغرة. والحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن ماجه عن أبي قتادة مرفوعاً بلفظ "خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجل ثلاث. فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصِّفَة. وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير).
نسب ابن السمعاني (1) هذا القول إلى الشافعي في عامة كتبه، وإلى أبي حامد الإسفراييني، وابن سُريج. ومعنى ذلك أن السنة لا يمكن أن تأتي بما يعارض القرآن على وجه لا يمكن الجمع بينهما. فإن روي من ذلك شيء، فلا بدّ أن السنة منسوخة، أو في الاستدلال بها دخَل، أو تكون الآية منسوخة بآية أخرى. وإلّا فإنّ الرواية لا تكون ثابتة.
الثاني: أنهما متساويان. وعند التعارض يقدَّم المتأخر وروداً منهما. فإن لم يعلم يتوقّف في المسألة.
وأصحاب القول الثاني يجيزون نسخ القرآن بالسنة. وقد نسب ابن السمعاني (2) هذا القول إلى الحنفية وعامة المتكلمين. وقال: قيل إنه اختيار ابن سريج.
الثالث: إن السنة مقدمة على الكتاب. فيطرح الكتاب عند التعارض. وهو قول مردود، لا ينسب إلى قائل معين.
ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذكر أدلّة أصحاب القولين الأولين ومناقشاتها، بعد أن نعلم أنه لم يرد شيء من الأحاديث الصحيحة يتعين أنه ناسخ للكتاب، حتى نقل الغزالي عن بعضهم "إن ذلك لم يقع أصلاً"(3).
وكل ما قيل فيه من الأحاديث إنه ناسخ للقرآن خمسة ليس غيرها فيما نعلم:
1 -
حديث: "لا وصية لوارث"(4). قيل إنه ناسخ لآية: {الوصية للوالدين والأقربين} (5).
(1) القواطع ق 148 أ. على أن ابن السمعاني ذكر الاتفاق على أن السنة الآحادية لا تنسخ القرآن. فعلى هذا: المقصود بالسنة التي يصح أن تكون ناسخة للقرآن عندهم المتواترة دون الآحادية.
(2)
القواطع ق 148 أ.
(3)
المستصفى 1/ 80
(4)
صحيح (تفسير القرطبي 2/ 263).
(5)
سورة البقرة: آية 180
والصحيح أن النسخ إنما هو بآيات المواريث، ولكن لمّا احتمل أن آية المواريث تَضُمُّ للوالد والقريب حظّاً آخر، أو تبدل حظّاً من حظ، جاء الحديث مبيّناً أن المراد الاحتمال الثاني. فلولا هذا الحديث لأمكن الجمع للوارث بين الميراث والوصية. فكان الحديث مبيناً لا ناسخاً (1).
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: الثّيب بالثّيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"(2). قال بعضهم: هو ناسخ لآية إمساك الزواني في البيوت حتى يتوفاهن الموت.
والصواب أن الحديث مبيّن للسبيل المذكور في الآية.
3 -
حديث قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف في ذي القعدة الحرام. قال بعض الفقهاء إن ذلك ناسخ لقوله تعالى (3): {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير} ونحوها من الآيات الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم.
والصواب أن تحريم القتال فيها غير منسوخ، بل هو باقٍ مؤبّد مؤكّد. وما كان من قتال النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف إنما كان من باب ردّ العدوان المذكور مع تحريم الأشهر الحرم في آية واحدة، هي قوله تعالى:{الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (4)، وقد كانت ثقيف وسائر هوازن تجمعت بعد فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة، وسارت إليه، فقابلهم بحنين وهزمهم، فلجأ فلّهم إلى الطائف. فكان من تمام المعركة -بحسب المنطق العسكري الذي يدل عليه قول تعالى:{فإن قاتلوكم فاقتلوهم} - ملاحقة المنهزمين قبل أن يتمكنوا من إعادة الكرة، وفي الحديث عن جابر ما يدل على ذلك، حيث قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغزو في الشهر الحرام إلاّ أن يُغْزَى، أو يغزو، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ"(5).
(1) أشار السمعاني (ق 152أ) إلى أن الحديث مبين للآية، ولم يوضح معنى البيان كما وضحناه.
(2)
رواه مسلم وأحمد من حديث عبادة بن الصامت (الفتح الكبير).
(3)
سورة البقرة: آية 217.
(4)
سورة البقرة: آية 194.
(5)
رواه أحمد 3/ 334، 345
4 -
ذكروا (1) أن آياتٍ نسخت بأحاديث، الصحيح فيها أنها مخصصة وليست ناسخة، منها:{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} (2) نسخت في حق ابن خَطَل حينما قال صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه"(3). وقد كان متعلقاً بأستار الكعبة. والصواب أن هذا تخصيص وليس نسخاً.
5 -
ومنها آية: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّماً على طاعمٍ يطعمه إلّا أن يكون ميتة
…
} (4) الآية ذكروا نسخها بحديث النهي عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وواضح أن هذا تخصيص أيضاً وليس بنسخ.
وممن نبّه إلى قلة جدوى الخوض في هذه المسألة الشاطبي، حيث قال:"البحث في هذه المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه"(5). وصرّح ابن تيمية بأنه يذهب إلى امتناع نسخ القرآن بالسنة وأن ذلك مقتضى حرمة القرآن (6). وقال الشوكاني: "وبه جزم الصيرفي والخفاف، بل نقل بعضهم إجماع الشافعية عليه"(7).
هذا بالنظر إلى ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما يقطع بذلك من يسمعها منه مباشرة، أو تنقل إليه نقلاً قطعياً. فإن نقلت نقلاً آحادياً انضم إلى المسألة عنصر جديد يؤيد عدم الأخذ بها فيما عارض القرآن، إذ إن احتمالات كذب الرواة ووهمِهم تدخل في البين، لتخفف من وزن الحديث في ميزان الترجيح. ويوافق في هذا المقام على مرجوحية السنة، كثير ممن عارض ذلك في المقام الأول. فقال الشوكاني: هذا رأي الجمهور. وذكر أن ابن السمعاني وسليماً الرازي نقلا الإجماع عليه (8).
(1) ابن السمعاني (ق 149 أ).
(2)
سورة البقرة: آية 192
(3)
صحيح مسلم 9/ 131
(4)
سورة الأنعام: آية 145
(5)
الموافقات: 4/ 11
(6)
الفتاوى الكبرى. ط الرياض 20/ 397 - 399
(7)
إرشاد الفحول: 1/ 190
(8)
إرشاد الفحول: 1/ 190.