الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن دلالة متعلقات الفعل النبوي
1 -
سبب الفعل.
2 -
الفاعل وجهاته.
3 -
المفعول به وجهاته.
4 -
مكان الفعل وزمانه.
5 -
هيئة الفعل.
6 -
دلالة الاقتران.
7 -
الأدوات والعناصر المادية.
8 -
العدد والمقدار.
دلالة متَعلقات الفِعْل النبَويّ
ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب أن الدلالة الرئيسية للأفعال هي الدلالة على أن أحكام أفعالنا مساوية لأحكام أفعاله صلى الله عليه وسلم فما وجب عليه وجب علينا، وما ندب له ندب لنا، وما أبيح له أبيح لنا.
ثم بينّا أن ذلك هو من مفهوم الموافقة لفعله صلى الله عليه وسلم، أو من القياس بنفي الفارق.
والذي يراد بيانه في هذا الفصل، أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا مع التلبّس بأمور مختلفة، فكما أنه وقع 1 - لسبب معين، كذلك 2 - يقع من فاعله 3 - وقد يتعدى إلى مفعول، 4 - ولا بدّ أنه واقع في زمان معين، ومكان معين، 5 - وعلى هيئة معينة، 6 - وقد تستعمل فيه آلة وعناصر مادية معينة 7 - وقد يقارنه أمور تقع معه، 8 - وقد يقع الفعل مرة أو مرات معلومة أو مجهولة.
فلما قلنا إن استفادة الحكم من فعله صلى الله عليه وسلم تقتضي أن نفعل مثل ما فعل، وجوباً أو ندباً أو إباحة، على التفصيل المتقدم بيانه، فهل يعني ذلك أن الأسوة المطلوبة شرعاً تقتضي مماثله فعلنا لفعله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور؟.
لم يتعرض أحد من الأصوليين الذين اطلعنا على كلامهم لهذه المسألة بالتفصيل، ونحن نرجو أن نتمكن بعون الله من إيضاح ذلك، مسترشدين بتصريحات وإشارات مجملة، وردت في مواضع متفرقة من كلام القوم.
فنقول: أما أصل الفعل فلا بد من الاتفاق فيه، وإلا فلا تتحقق المماثلة أصلاً، وذلك كصلاة وصلاة، وصوم وصوم، ولا يتم الاستدلال بفعل صلاة على فعل صوم إلا بنوع من القياس عند الاستواء في العلة.
وأما ما سوى ذلك، فإن القول الجامع أن يقال: إن المطلوب المماثلة فيه ما كان من المتعلقات المذكورة غرضاً مقصوداً على سبيل أنه شرع، عندما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفعل.
يقول أبو الحسين البصري في شرح قولهم: (على الوجه الذي فعل)"أما الوجه الذي وقع عليه الفعل، فهو الأغراض والنيات، فكل ما عرفناه أنه غرض في الفعل اعتبرناه. ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل"(1). ويقول ابن أمير الحاج: "معنى على وجهه أن يكون مشاركاً له في الصفة والغرض، والنية"(2).
فإن علمنا أن شيئاً منها ليس مقصوداً، فلا يدخل في التأسّي، ويقول أبو الخطاب الحنبلي:"إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل في زمان ومكان، وعلمنا أن في ذلك غرضاً، مثل صلاة الجمعة، وصوم رمضان، والوقوف بعرفة (فإننا لا نكون متأسِّين به إذا فعلناه في غير الزمان والمكان) وإن لم نعلم أن فيه غرضاً، مثل أن ينقل أن تصدق بيمينه وقت الظهر بباب مسجده، فإن التأسّي يحصل بالصدقة، وإن تصدق بشماله، في غير باب مسجده، وغير وقت الظهر"(3).
والحاصل أن ما علمناه مقصوداً في الفعل، من المتعلقات المذكورة فهو معتبر في الاقتداء.
وما علمناه غير مقصود فهو خارج.
وما لم نعلم أنه مقصود، ولا أنه غير مقصود، فهو موضع الإشكال، وهو موضع البحث في هذا الفصل.
وقبل الشروع في التفاصيل نقدّم مسائل تتعلق بهذا الأصل العام.
المسألة الأولى: أن المراد بالقصد والغرض فيما تقدم، قصد التعلّق من حيث الموافقة للشريعة، لا قصد المتعلق لذاته، أو لمصلحة عارضة، فإذا صلى، صلى الله عليه وسلم، في
(1) المعتمد 1/ 372
(2)
التقرير والتحبير 2/ 303
(3)
أبو الخطاب: التمهيد ق 89 أ.
بقعة من المسجد مثلاً، فقد قصد أن يصلي فيها، لا شك في ذلك، لكن قد يكون قَصدَها لأنه يريد موافقة الشرع بتخصيصها، كالصلاة عند المقام، فيكون تخصيصها مطلوباً في حقنا شرعاً، وقد يكون قصدها مع أنها عنده غير متميزة شرعاً عما سواها بشيء، وإنما قصده قصد عاديّ لغرض موقوت، كأن تكون أقرب إليه مما سواها، أو لأنّ فيها ظلاً يستظل به من الشمس مثلاً، أو لغير ذلك. فلا يدل على استحباب تخصيصها أو وجوبه.
وبهذا يرد على من زعم استحباب الصلاة عند أساطين معينة من المسجد
النبوي، أو في بقاع معينة من أنحاء المدينة وغيرها، لمجرد أنه قد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم
قد صلى فيها، أو عمل فيها عملاً ما (1).
ولم يفرق ابن تيمية بين القصدين، فقد ذكر تحري سلمة بن الأكوع الصلاة عند سارية المصحف من المسجد النبوي. قال سلمة:"إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها"(2). يقول ابن تيمية: "وقد ظنّ بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه، وليس بجيّد، فإنه هنا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرّى البقعة، فكيف لا يكون هذا القصد مستحباً"(3) اهـ.
ونحن نجيبه بما تقدم من التفريق بين القصدين. وأما ما فعله سلمة رضي الله عنه، فليس فعله حجة. ولعله فعله بناء منه على أن ذلك التحري من النبي صلى الله عليه وسلم كان لقصد شرعي. فإن تلك البقعة المعينة واقعة بين المنبر والبيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي".
المسألة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم قد يقصد في الفعل الواحد بعض متعلقاته على سبيل الوجوب، وبعضها على سبيل الندب، وبعضها على سبيل الإباحة، فتختلف الأحكام المستفادة بحسب ذلك. فعندما صلى صلاة الاستسقاء ركعتين، كان لابساً ملابس بذلة، لها لا شك لون خاص. فأما كون الصلاة ركعتين فذلك واجب، وأما التبذل في الثياب في صلاة الاستسقاء فمستحب، وأما اللون فمباح.
(1) ذكر في (الرصف) مواضع نقلت فيها أفعال النبي بالمدينة وغيرها (1/ 163 - 170)
(2)
رواه البخاري (فتح الباري 1/ 577)
(3)
اقتضاء الصراط ص 389
وبهذا يتبيّن أن لكل متعلق من المتعلقات الثمانية حكمه المنفرد، ثم قد تتفق تلك الأحكام أو تختلف.
المسألة الثالثة: أن القصد أمر قلبي، ثم قد يعلم إذا دلت عليه الأدلة القولية أو الحالية، وقد يكون خفياً فيستدل عليه بالأمارات. ويستعان لذلك بالأصول التي نذكرها في ما يأتي.
المسألة الرابعة: الأصل التأسّي في المتعلق الذي نعلم أنه مراد، أو غلب على الظن إرادته بأمارة، فإنه يعتبر في التأسّي. ولا يصح التأسّي فيما علم أنه غير مراد من جهة الشرع. وأما ما لم تعلم إرادته ولم يغلب على الظن إرادته، فيختلف باختلاف نوع المتعلق. وسيتبين أن الأصل في بعضها الاعتبار، وفي بعضها عدم الاعتبار.
المسألة الخامسة: ما كان من المتعلقات اتفاقياً، وقد تعلق به الفعل مصادفة دون قصد أصلاً، فهو أبعد ما يكون عن الاعتبار في التأسّي. ولا يجوز إدخاله في التأسّي وقصده في العبادة أو غيرها. ويقول ابن تيمية:"متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في فعله بأن نفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله. فإذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في مكان، كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد. أما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق، لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحرّ ذلك المكان، فإنا إذا تحرّينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإنما الأعمال بالنيات"(1).
ويقول: يجب الفرق بين الاستنان به صلى الله عليه وسلم في ما فعله، وبين ابتداع بدعة لم يسنّها، لأجل تعلقها به (2).
ونحن نرى أن مما يندرج تحت هذه القاعدة المثالين الآتيين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج حجة الوداع، فوافق وقوفه بعرفة يوم الجمعة.
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 387
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم ص 389
ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد ذلك، فقد خرج من المدينة وهو لا يعلم متى يقف. لأنه خرج قبل أن يدخل شهر ذي الحجة. فمن ادعى -كالسيوطي (1) ونقله عن ابن جَمَاعَة- أن الوقوف بعرفة إذا وافق يوم الجمعة أفضل، من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف وقوفه الجمعة، فقوله مردود. وبحسبنا في رده أنه يستلزم تتبُّع أعياده صلى الله عليه وسلم أي الأيام وافقت، ومسيره وحركاته متى حصلت، لنخصّها بمزيد من العمل. وذلك غير مستقيم شرعاً.
وقد احتج السيوطي لما ذهب إليه بأدلة أخرى لا كلام لنا فيها في هذا المقام.
المثال الثاني: قالت عائشة: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى مني عنده؟ وكانت عائشة تستحب أن يبنى بنسائها في شوال.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: "فيه استحباب التزويج والدخول في شوال. قد نصّ أصحابنا (2) على استحبابه، واستدلوا بهذا الحديث"(3) اهـ.
ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد شوالاً بالبناء فيه، ولو استحب ذلك لكان علينا تتبع شهور بنائه بزوجاته الباقيات، واعتبارها مواسم يستحب فيها الزواج.
فما قاله النووي مردود، ولا يصح بناء الاستحباب على التعلق الاتفاقي.
ولعل عائشة قالت ذلك رداً على من تطّير من شوال فكره الزواج فيه، وقد ذكر النووي ذلك نفسه، فيكون قولها دالاً على إثبات الجواز، ونفي تطّير الجاهليين بشوال.
(1) انظر رسالته (نور اللمعة في خصائص الجمعة) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/ 220 قال فيه "وقفة الجمعة تفضل غيرها من خمسة أوجه، أحدها: موافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وقفته كانت يوم الجمعة، وإنما يختار الأفضل" ثم ذكر باقي الأوجه.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 209
(3)
وانظر: نهاية المحتاج 6/ 182