الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"خذوا عني مناسككم"
حجة النبي صلي الله عليه وسلم
روى مسلم (1) بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله. فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ. فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسى فنزع زِرِّى الأعلى، ثم نزع زِرِّى الأسفل، ثم وضع كفّه بين ثدييى وأنا يومئذ غلام شاب، فقال مرحبا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته. وهو أعمي. وحضر وقت الصلاة، فقام في نِسَاجَة ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغَرِهَا، ورداؤه على المِشْجَب، فصلى بنا، فقلت: أخبرنى عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فَعَقَدَ تِسْعًا فقال:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لمِ يحج، ثم اذَّنَ في الناس في العاشرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُلَيْفَة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فارسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: "اغتسلى واسْتَثْفِرى (*) بثوب وأحرمى"، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرتُ إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم -عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيته.
(1) صحيح: [مختصر م 707]، م (2218/ 886/2).
(*) الاستثفار: هو أن تشد في وسطها شيئًا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثقر الدابة بفتح الفاء (ص. مسلم النووي ج 8 ص 239 ط. قرطبه).
قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوى إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فَرَمَلَ ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (1)، فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول:"ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم" كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد، وقيل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (2) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فَرَقِىَ عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره وقال:"لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصَبَّتْ قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال:"لو أني استقبلت من أمرى ما استدبرت لم اسُقِ الهَدْىَ وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة" فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فَشَبَّكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:"دخلت العمرة في الحج" مرتين "لا بل لأِبَد أبَدٍ".
وقدم عليُّ من "اليمن بِبُدْنِ النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان عليّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا على فاطمة للذى صنعت، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرتْ عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: "صدقت صدقت. ماذا قلت حين فَرَضْتَ الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهلّ بما أهلّ به رسولك. قال: "فإن معى الهدى فلا تحل" قال: فكان جماعة الهدى الذي قدم به عليُّ من اليمن والذي أتي به النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال: فحلّ
(1) البقرة (125).
(2)
البقرة (158).
الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى مني، فاهلّوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتي طلعت الشمس، وأمر بقبة من شَعَر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا إنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فاجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادى فخطب الناس وقال:
"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس ابن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات.
ثم أذن. ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَاتِ، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِكَ رحله، ويقول بيده اليمنى:"أيها الناس السكينة السكينة" كلما أتي حبلا من الحبال
أرخى لها قليلًا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر، حين تبين له الصبح بأذان وإقامة.
ثم ركب القصواء. حتى أتي المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله وحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلًا حسن الشَّعْرِ، أبيض، وسيما، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم -مرت به ظُعُنٌ يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر حتى أتى بطن مُحَسِّر، فحرك قليلًا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة "الكبرى" حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخَذْف (1)، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلائا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غَبَرَ، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فاكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فافاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتي بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال:"انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلوا فشرب منه".
قال الإِمام النووي رحمه الله في شرح مسلم (170/ 8):
"وهو حديث عظيم، مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات
القواعد، قال القاضى قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه واكثروا، وصنف فيه
(1) قال الإِمام النووى في شرح مسلم (191/ 8): "وأما قوله: "فرماها بسع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف" فهكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضى عياض عن معظم النسخ قال: وصوابه مثل حصى الخذف، قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم. هذا كلام القاضى. قلت: والذي في النسخ من غير لفظه مثل هو الصواب، بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام إلا كذلك، ويكون قوله حصى الخذف متعلقا بحصيات، أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف يكبر مع كل حصاة، فحصى الخذف متصل بحصياتِ واعترض بينهما يكبر مع كل حصاة، وهذا هو الصواب والله أعلم" أهـ.