الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى الشكر
وهو تصوُّر النعمة وإِظهارها. وقيل: هو الثناءُ على المحسِن بما أَوْلَى من المعروف، يقال: شَكَرْتُهُ، وشكرت له. وتعديته بالَّلام أَفصح، قال الله تعالى:{واشكروا لِي} ، وقال جَلَّ ذكره:{أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} .
وقوله تعالى: {لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُوراً} يحتمل أَن يكون مصدرًا مثل قعد قعودًا، ويحتمل أن يكون جمعا، مثل بُرْد وبُرُود، وكُفر وكُفور.
والشُّكْران: خلاف الكفران. والشَكُور: الشَّاكر. والشَّكُور من الدّواب: الَّذى يجتزىء بالعَلَف القليل ويسمَن عليه. قال الأَعشى:
ولا بدّ من غزوةٍ فى الربيع
…
رَهْبٍ تُكلّ الوَقاح الشكورا
وقيل: الشكر مقلوب الكشْر أَى الكشف. وقيل: أَصله من عَيْنٍ شَكْرَى: ممتلئة. والشكر على هذا: الامتلاء من ذكر المُنْعِم.
والشكر على ثلاثة أَضرب: شكر بالقلب؛ وهو تصوّر النّعمة. وشكر باللسان؛ وهو الثناءُ على المنعِم. وشكر بسائر الجوارح؛ وهو مكافأَة النعمة بقدر استحقاقه.
وقوله تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} انتصابه على التمييز ومعناه: اعملوا ما تعملونه شكرًا لله. وقيل: شكرًا مفعول لقوله: {اعملوا} . ولم يقل: اشكروا لينبّه على التزام الأَنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح. وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} فيه تنبيه أَنَّ توفية شكرِ الله صعب. ولذلك لم يُثْنِ بالشكر من أَوليائه إِلَاّ على اثنين، قال فى وصف إِبراهيم عليه السلام:{شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} ، وقال فى نوح عليه السلام:{إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} .
وإِذا وُصف الله بالشكر فى قوله: {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} فإِنما يُعنى به إِنعامه على عباده، وجزاؤه بما أَقامه من العبادة.
واعلم أَنَّ الشكر أَعلى منازل السّالكين، وفوق منزلة الرّضا، فإِنَّه يتضمّن الرّضا وزيادةً، والرّضا مندرِج فى الشكر؛ إِذ يستحيل وجود الشكر بدونه. وهو نصف الإِيمان. وقد أَمر الله به، ونَهَى عن ضدّه، وأَثنى على أَهله، ووصف [به] خواصّ خَلْقه، وجعله غاية خَلْقه وأَمره، ووعَد أَهله
بأَحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته.
وأَخيراً أَنَّ أَهله هم المنتفعون بآياته، واشتَقَّ لهم اسمًا من أَسمائه. فإِنَّه سبحانه هو الشَّكور، وهو مُوَصّل الشَّاكِر إِلى مشكوره، بل يعيد الشَّاكر مشكورًا. وهو غاية رضا الربِّ عن عبده، وأَهله هم القليل من عباده، قال تعالى:{واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وقال:{واشكروا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} . وقال عن خليله إِبراهيم: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} ، وعن نبيّه نوح:{إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . وقال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال: {أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} ، وقال:{وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، وقال:{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
وسمّى نفسه شاكرًا، وشَكُورًا. وحسبك بهذا محبّة للشاكرين وفَضْلاً.
وأَعاد به الشُكْر مشكورًا؛ كقوله: {إِنَّ هاذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} . ورَضِىَ الرّبّ عن عبده كقوله: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} . وقِلَّةُ أَهله فى العالمين على أَنَّهم من خواصّه.
وفى الصّحيح عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّه قام حتى تورّمت قَدَماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غَفَر الله لك ما تقدّم من ذنبك [وما تأَخَّر] ؟ قال: أَفلا أَكون عبدًا شكورًا"!. وقال لمُعَاذ "يا مُعَاذ إِنِّى أُحبُك، فلا تنس أَن تقول فى دُبُر كلّ صلاة: اللَّهمّ أَعنِّى على ذكركَ وشُكرك وحُسن عبادتك". وفى الترمذى من بعض دعائه المشهور: "ربّ اجعلنى لك شَكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رَهّابا لك مِطواعًا، لك مُخْبِتًا، إِليك أَوّاهًا مُنِيبًا".
والشكر مبنىّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبّه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأَلا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هى أَساس الشكر، وبناؤه عليها. فمتى عُدم منها واحدة اختلّت قاعدة من قواعد الشكر. وكلّ من تكلم فى الشكر فكلامه إِليها يرجع، وعليها يدور.
فقيل حَدّه: أَنَّه الاعتراف بنعمة المنعِم على وجه الخضوع. وقيل: الثناءُ على المحسِن بذكر إِحسانه. وقيل: هو عكوف القلب على محبّة المنعِم، والجوارح على طاعته، وجَرَيانُ اللسان بذكره، والثناءِ عليه. وقيل: هو مشاهدة المِنَّة، وحفظ الحُرْمة.
وما أَلطف ما قال حَمْدُون القصّار: شُكر النعمة: أَن نرى نفسك طُفَيْلِيًّا. وقال أَبو عثمان: الشكر: معرفة العجز عن الشكر. وقيل: الشكر إِضافة النِّعَمِ إِلى مُوليها. وقال الجُنَيد: الشكر: أَلَاّ ترى نفسك أَهلاً للنعمة. وهذا معنى قول حمدون: أَن ترى نفسك فيها طُفَيْليًّا. وقال رُوَيم: الشكر: استفراغ الطَّاقة، يعنى فى الخدمة. وقال الشِّبلىّ: الشكر: رؤية المنعِم لا رؤية النعمة. ويحتمل كلامه أَمرين: أَحدهما أَن يَفْنَى برؤية المنعِم عن رؤية النعمة، الثَّانى أَلَاّ تحجبه رؤية النعمة ومشاهدتُها عن رؤية المنعِم بها، وهذا أَكمل، والأَوّل أَقوى عندهم. والكمال أَن يشهد النعمة والمنعِم، لأَنّ شكره بحسب شهوده للنعمة، وكلّما كان أَتمّ كان الشّكر أَكمل، والله يحُبّ من عبده أَن يشهد نعمه، ويعترف بها، ويُثنى عليه بها، ويحبّه عليها، لا أَن يَفْنَى عنها، ويغِيب عن شهودها. وقيل: الشكر قِيْد النِّعَم الموجودة، وصيد النِّعم المفقودة. وشكر العامّة على المَطْعَم والمَلْبَس وقوة الأَبدان، وشكر الخاصّة على التَّوحيد والإِيمان وقوّة القلوب.
وقال داود عليه السلام: يا ربّ كيف أَشكرك وشكرى نعمة علىّ مِن عندك تستوجب بها شكرًا؟. فقال: الآن شكرتنى يا داود.
وفى أَثر إِسرائيلىِّ، قال موسى: يا ربّ خلقتَ آدم بيدك، ونفخت فيه من رُوحك، وأَسجدت له ملائكتك، وعلَّمته أَسماءَ كلّ شىء، وفعلتَ وفعلت، فكيف أَطاق شكرك. فقال الله عز وجل: علم أَنَّ ذلك منى، فكانت معرفته بذلك شكرًا لى.
وقيل: التلذّذ بثنائه على ما لم يستوجب من عطائه.
وقال الجُنَيد - وقد سأَله سَرِىّ عن الشكر، وهو صبىّ بَعْدُ -: الشكر أَلاّ يستعان بشىء من نِعَم الله على معاصيه. قال من أَين لك هذا؟ قال: من مجالستك.
وقيل: من قَصُرت يداه عن المكافأَة فليَطُل لسانُه بالشكر.
والشكر مع المزيد أَبدًا؛ لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} . فمتى لم تر حالك فى مزيد فاستقبل الشكر. وفى أَثر إِلَهىّ، يقول الله: أَهل ذكرى أَهل مجالستى، وأَهل شكرى أَهل زيادتى، وأَهل طاعتى أَهل كرامتى، وأَهل معصيتى لا أُقَنِّطهم من رحمتى، إِنْ تابوا فأَنا حبيبهم، وإِنْ لم يتوبوا فأَنا طبيبهم، أَبتليهم بالمصائب لأطهرهم عن المعايب.
وقيل: من كتم النعمة فقد كفرها؛ ومن أَظهرها ونَشرها فقد شكرها. قال:
ومن الرزيّة أَنَّ شكرى صامت
…
عمّا فعلت وأَنّ برّك ناطقُ
أَأَرَى الصنيعة منك ثم أُسِرّها
…
إِنِّى إِذًا لِنَدَى الكريمِ لسارقُ
وتكلم النَّاسُ فى الفرق بين الحمد والشكر [و] أَيُّهما أَفضل. وفى الحديث: "الحمد رأس الشكر، فمن لم يَحْمَدِ الله لم يشكره". والفرق بينهما أَنَّ الشكر أَعمّ من جهة أَنواعه وأَسبابه، وأَخصّ من جهة متعلَّقاته فيه. والحمد أَعمّ من جهة المتعلّقات، وأَخصّ من جهة الأَسباب. ومعنى هذا أَنَّ الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانة، وباللسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا؛ ومتعلَّقهُ النِعَم دون الأَوصاف الذاتيّة، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه، وهو المحمود بها، كما هو محمود على إِحسانه وعدله. والشكر يكون على الإِحسان والنِّعَم. فكلّ ما يتعلّق به الشكر يتعلّق به الحمد من غير عكس. وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإِنَّ الشكر يقع بالجوارح، والحمد باللسان.