الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى صدف وصدق
الصَّدَف كجَبَل، والصُّدُف كعنق، و (الصَّدْف كثَغْر)، والصَّدُف كعَضُد: منقطَع الجبل. وقرىء بالجمِيع. صَدَف عنه يَصْدِف: أَعرض. وصَدَف فلانًا صَدْفًا: صَرَفَهُ وأَماله. وكذا أَصدفه. وصدفَ فلان صَدْفًا وصُدوفًا: انصرف. والصَّدُوف: المرأَة الَّتى تعرِض وجهها عليك، ثمّ تصدِف.
والصَّديق والكذب أَصلها فى القول، ماضيًا كان أَو مستقبلاً، وعدًا كان أَو غيره. ولا يكونان بالقصد الأَوّل إِلَاّ [فى القول، ولا يكونان فى القول إِلا] فى الخبر دون غيره من أَنواع الكلام. ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} ، وقوله:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} .
وقد يكونان بالعَرَض فى غيره من أَنواع الكلام كالاستفهام، والأَمر، والدّعاءِ، وذلك نحو قول القائل: أَزَيْدٌ فى الدّار؛ فإِن فى ضمنه إِخبارً
ابكونه جاهلاً بحال زيد، وكذا إِذا قال: واسِنى، فى ضمنه أَنَّه محتاج إِلى المواساة. وإِذا قال: لا تؤذنى، ففى ضمنه أَنَّه يؤذيه.
والصّدق: مطابقة القول الضَّميرَ والمُخْبَرَ عنه معًا. ومتى انخَرم شرط من ذلك لا يكون صدقًا [تامًّا] ، بل إِمّا أَلَاّ يوصف بالصّدق، وإِمّا أَن يوصف تارة بالصّدق وتارة بالكذب، على نظرين مختلفين؛ كقول الكافر من غير اعتقاد: محمّد رسول الله، فإِن هذا يصحّ أَنْ يقال: صدقٌ لكون المخبَرِ عنه كذلك، ويصح أَن يقال: كذبٌ لمخالفة قوله ضميرَه. وبالوجه الثانى إِكذاب الله تعالى المنافقين حيث قالوا: إِنَّك لرسول الله فقال: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} .
والصِّدِّيق: الرّجل الكثير الصّدق. وقيل: الصّدِّيق: مَن لم يصدر منه الكذب أَصلاً. وقيل: مَن لا يتأَتَّى منه الكذب لتعوّده الصّدق. وقيل: مَنْ صَدَق بقوله واعتقاده، وحَقَّق صدقه، قال تعالى فى حقّ إِبراهيم. {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} ، وقال:{فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين} ، فالصّدّيقون: قومٌ دون الأَنبياءِ فى الفضيلة، ولكن درجتهم ثانى درجة النبيّين.
وفى الجملة، منزلة الصّدق من أَعظم منازل القوم، الذى نشأَ منه جميع منازل السّالِكين. وهو الطريق الأَقوم الَّذى من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقَطِعين الهالكين. وبه تميّز أَهل النفاق من أَهل الإِيمان، وسكانُ الجنان من أَهل النيران. وهو سيف الله فى أَرضه الذى ما وضع على شىء إِلَاّ قطعه، ولا واجه باطلاً إِلَاّ أَزاله وصرعه. فهو رُوح الأَعمال، ومحلّ الأَحوال، والحامل على اقتحام الأَهوال، والباب الذى دخل منه الواصلون إِلى حضرة ذى الجلال.
وقد أَمر الله سبحانه أَهل الإِيمان أَن يكونوا مع الصّادقين، وخصّص المنعَم عليهم بالنَّبيِّين والصّدِّيقين والشهداء والصّالحين، فقال:{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} ، وقال:{وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} ، فهم أَهل الرّفيق الأَعلى، / {وَحَسُنَ أولائك رَفِيقاً} ، ولا يزال الله يَمدّهم بنعمهِ وأَلطافه، ويزيد إِحسانًا منه وتوفيقًا، ولهم مزيّة المعِيّة مع الله، فإِن الله تعالى مع الصّادقين. ولهم منزلة القرب منه؛ إِذ درجتهم منه ثانى درجة النبيّين، وأَثنى عليهم بأَحسن أَعمالهم: من الإِيمان، والإِسلام، والصّدقة، والصّبر، [و] بأَنَّهم أَهل الصّدق فقال:
{ولاكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} إِلى قوله: {أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون} ، وهذا صريح فى أَنَّ الصّدق بالأَعمال الظاهرة والباطنة، وأَنَّ الصّدق هو مَقام الإِسلام والإِيمان.
وقسّم سبحانه النَّاس إِلى صادق ومنافق، فقال:{لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} .
والإِيمان أَساسه الصّدق، والنفاق أَساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإِيمان إِلَاّ واَحَدهما يحارب الآخر. وأَخبر سبحانه أَنَّه فى القيامة لا ينفع العبدَ وينجيه من عذابِه إِلَاّ صدقُه، فقال تعالى:{هاذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم} ، وقال:{والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولائك هُمُ المتقون لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فالذِى جاءَ بالصّدق هو من شأْنُه الصّدق فى قوله، وعمله، وحاله. فالصّدق فى الأَقوال: استواءُ اللسان على الأَقوال؛ كاستواءِ السُّنبلة على ساقها. والصّدقُ فى الأَعمال: استواء الأَفعال على الأَمر والمتابعة؛ كستواءِ الرّأْس على الجَسَد. والصّدق فى الأَحوال: استواءُ أَعمال القلب والجوارح على
الإِخلاص، واستفراغ الوُسْع، وبذل الطاقة؛ فبذلك يكون العبد من الذين جاءُوا بالصّدق. وبحسب كمال هذه الأُمور فيه، وقيامِها به تكون صِدّيقيّته، ولذلك كان لأَبى بكر الصّدّيق ذروة الصّدّيقيّة، حتى سُمّى الصّدّيق على الإِطلاق. والصّدّيق أَبلغ من الصَّدُوق، والصَّدُوق أَبلغ من الصَّادق، فأَعلى مراتب الصدق مرتبة الصدّيقيّة، وهى كمال الانقياد للرّسول، مع كمال الإِخلاص للمرسِل.
وقد أَمَر سبحانه رسوله أَن يسأَله أَن يجعل مُدْخله ومُخرجه على الصّدق، فقال:{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} .
وأَخبر عن خليله إِبراهيم عليه السلام أَنَّه سأَله أَن يجعل له لسان صِدق فى الآخِرين. وبشَّر عباده أَنَّ لهم قَدَم صِدق، ومقعد صدق؛ فقال:{وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} ، وقال:{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} . فهذه خمسة أَشياء: مدخل الصّدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصّدق، وقَدَم الصّدق. وحقيقة الصّدق فى هذا الأَشياءِ هو الحقّ الثَّابت المتَّصل بالله، الموصِّل إِلى الله، وهو ما كان به وله من الأَعمال والأَقوال. وجزاءُ ذلك فى الدّنيا والآخرة.
فمُدخَل الصّدق ومُخرَج الصّدق أَن يكون دخوله وخروجه حقًّا ثابتًا لله تعالى ومرضاتِه. متَّصلا بالظَّفر ببغيته، وحصول المطلوب، ضِدّ مُخرَج الكذب ومُدخله الَّذى لا غاية له يوصّل إِليها، ولا له ساقٌ ثابتة يقوم عليها؛ كمُخرَج أَعدائه يوم بدر. ومُخرج الصّدق كمخرجه هو وأَصحابه فى ذلك الغَزْو. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله والله وابتغاءَ مرضاة الله، فاتَّصل به التَّأْييدُ، والظفر، والنَّصر. وإِدراك ما طلبه فى الدّنيا والآخرة؛ بخلاف مدخل الكذب الذى رام أَعداؤه أَن يدخلوا به المدينة يوم الأَحزاب؛ فإِنَّه لم يكن بالله ولا لله بل محادّة لله وسوله، فلم يتَّصل به إِلَاّ الخِذلانُ والبوار، وكذلك مدخل مَنْ دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حِصن بنى قُرَيطة؛ فإِنَّه لمّا كان مدخل كذب أَصابهم منه ما أصابهم. وكلّ مدخل ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله، فهو مدخل صدق ومخرج صدق، ولذلك فُسّر مدخل الصّدق ومخرجه بخروجه من مَكة، ودخوله المدينة. ولا ريب أَنَّ هذا على سبيل التَّمثيل؛ فإِنَّ هذا المدخل والمخرج من أَجلّ مداخله ومخارجه صلى الله عليه وسلم، وإِلَاّ فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق. إذ هى بالله، ولله، وبأَمره، ولابتغاءِ مرضاته. وما خرج أَحد من بيته أَو دخل سُوقًا أَو مَدْخلا آخر إِلَاّ بصدق أَو كذِب. فمدخل كلّ أَحد ومخرجه لا يَعْدُو الصّدق والكذب والله المستعان.
وأَمّا لسان الصّدق فهو الثناءُ الحسن من سائر الأُمم بالصّدق ليس بِالكذب؛ كما قال عن أَنبياء: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} ، والمراد باللسان ههنا الثناءُ الحسن، فلمّا كان باللسان وهو محلّه عبّر عنه به؛ فإِنَّ اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا، واللغة كقوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} ، {وهاذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ} ، ويراد به الجارحة نفسها كقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} .
وأَمَّا قدم الصّدق ففُسِّر بالجنة، وفسّر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفُسّر بالأَعمال الصّالحة. وحقيقة القدم: ما قدّموه، ويقدَمون عليه يوم القيامة، وهم قدّموا الأَعمال والإِيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم، ويقدَمون على الجنة؛ ومَن فسّر بالأَعمال وبالنبىّ صلى الله عليه وسلم فلأَنَّهم قدّموها، وقدّموا الإِيمان به بين أَيديهم.
وأَمّا مقعد صدق فهو الجنَّة عند ربّهم تبارك وتعالى.
ووصْف ذلك كلِّه بالصّدق مستلزم ثبوتَه واستقراره، وأَنَّه حقّ، ودوامَه ونفعه وكمال عائدته؛ فإِنَّه متَّصل بالحقّ سبحانه، كان به وله.
فهو صدقٌ غير كذب، وحَقّ غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضارّ، ما للباطل ومتعلقاته إِليه سبيل ولا مدخل.
ومن علامات الصّدق طُمأْنينة القلب إِليه، ومن علامات الكذب حصول الرِّيبة؛ كما فى الترمذىّ مرفوعًا:"الصّدق طمأْنينة، والكذب ريبة"، وفى الصّحيحين:"إِنَّ الصّدق يَهدى إِلى البرّ، وإِنَّ البرّ يهدى إِلى الجنَّة، وإِنَّ الرّجل لَيَصْدُقُ حتى يُكتب عند الله صِدّيقًا، وإِنَّ الرّجل لَيَكْذبُ حتى يكتب عند الله كَذَّابًا"، فجعل الصّدق مفتاح الصّدّيقيّة ومبدأَها، وهى غايته، فلا يَنال درجتَها كاذبٌ البتَّة، لا فى قوله، ولا فى عمله، ولا فى حاله. ولا سيّما كاذبٍ على الله فى أَسمائه وصفاته، بنفى ما أَثبته لنفسه، أَو بإِثبات ما نفاه عن نفسه، فليس فى هؤلاءِ صِدّيق أَبدًا. وكذلك الكذب عليه فى دينه، وشَرْعه بتحليل ما حرّمه، وتحريم ما أَحلَّه، وإِسقاط ما أَوجبه، وإِيجاب ما أَسقطه، وكراهة ما أَحبّه، واستحباب مالم يحبّه، كلّ ذلك مُنافٍ للصّدّيقيّة. وكذلك الكذب معه فى الأَعمال بالتَّحلِّى بحِلْية الصّادقين المخلِصين، الزاهدين المتوكلِّين وليس منهم. وكانت الصّدّيقيّة كمال الإِخلاص، والانقياد والمتابعة فى كلّ الأُمور؛ حتى إِنّ صِدْق المتبايِعَيْن يُحلّ البركة فى بيعهما، وكذبهما يَمْحَى بركة بيعهما؛ كما فى الصّحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإِنْ صَدَقَا وبَيّنا بُورِكَ لهما بيعهما، وإِن كَذَبا وكتما مُحِقَت بركة بيعهما".
وقد تَنوَّعَتْ كلمات السّادة فى حقيقة الصّدق. فقال عبد الواحد ابن زيد رحمه الله: الصّدق الوفاءُ لله بالعمل. وقيل: موافقة السرّ النطقَ. وقيل: استواءُ السرّ والعلانية، يعنى أَنَّ الكاذب علانيته خير من سريرته؛ كالمنافق الذى ظاهره خير من باطنه. وقيل: الصّدق: القول بالحقّ فى مَوَاطن الهَلَكة. وقيل: كلمة الحقّ عند من يخافه ويرجوه.
وقال الجُنَيد: الصادق يتقلّب فى اليوم أَربعين مرّة. المرائى يثبت على حالة واحدة أَربعين سنة. وذلك لأَنَّ العارضات والواردات التى ترِد على الصّادق لا ترد على الكذَّاب المرائى، بل فارغ منهما لا يُعارضه الشَّيطان كما يعارض الصّادق، وهذه الواردات توجب تقلّب قلبِ الصّادق بحسب اختلافها وتنوّعها، فلا تراه إِلَاّ هاربًا مِن مكانٍ إِلى مكان، ومن عملٍ إِلى عمل، ومن حالٍ إِلى حال؛ لأَنَّه يخاف فى كلّ ما يطمئنّ إِليه أَن يقطعه عن مطلوبه.
وقال بعضهم: لم يشمّ روائح الصّدق مَنْ داهن نفسه أَو غيره.
وقال بعضهم: الصّادق: الَّذى يتهيّأُ له أَن يموت ولا يستحى مِن سِرّه لو كُشف. قال تعالى: {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وقال إِبراهيم الخوّاص: الصّادق لا يُرَى إِلَاّ فى فَرض يؤدّيه، أو فضل يعمل فيه.
وقال الجنيد مرّة: حقيقة الصّدق أَن تَصدُق فى مواطن لا ينجيك [منها] إِلا الكذب.
وفى أَثَرٍ إِلَهىّ: مَن صَدَقنى فى سريرته صدَقته فى علانيته عند خَلْقى.
وقال سهل: أَوّل خيانة الصّديقين حديثهم مع أَنفسهم.
وقال يوسف بن أَسباط: لأَنْ أَبيتَ ليلة أُعامل الله بالصّدق أَحَبّ إلىّ من أَن أُحارب بسيفى فى سبيل الله.
وقال الحارث المحاسبىّ: الصّادق: هو الذى لا يبالى لو خرج كلّ قَدْر له فى قلوب الخَلْق من أَجل صلاح قلبه، ولا يحبّ اطِّلاع النَّاس على مثاقيل الذَّر من حُسن عمله، ولا يكره أَن يطَّلع النَّاس على السَيىء من عمله، فإِن كراهته له دليل على أَنه يحبّ الزيادة عندهم، وليس هذا من علامات الصّدِّيقين. هذا إِذا لم يكن له مراد سوى عمارة حاله عندهم، وسكناه فى قلوبهم تعظيمًا له. وأَمّا لو كان مراده بذلك تنفيذًا لأَمر الله، ونشرًا لدينه، ودعوة إِلى الله، فهذا الصادق حقًّا، والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها.
وقال بعضهم: مَن لم يؤدّ الفَرْض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت. قيل: وما الفرض الدّائم؟ قال: الصّدق. وقيل: مَن يطلب الله بالصْدق
أَعطاه مِرآة يبصر فيها الحقّ والباطل. وقيل: عليك بالصّدق حيث تخاف أَنَّه يضرّك، ودع الكذب حيث تراه أَنَّه ينفعك؛ فإِنَّه يضرّك.
وقال الشيخ عبد الله الأَنصارى: الصّدق اسم لحقيقة الشىء، حُصُولاً ووجودًا. والصّدق: هو حصول الشىء وتمامه، وكمال قوّته واجتماع أَجزائه كما يقال: عزيمة صادقة إِذا كانت قوّية تامّة، وكذلك محبّة صادقة، وإِرادة صادقة. وكذلك حلاوة صادقة إِذا كانت قويّة تامة ثابتة الحقيقة، لم ينقص منها شىء. ومن هذا أَيضا صِدْق الخبر؛ لأَنَّه وجود المخبَرِ [به] بتمام حقيقته فى ذهن السّامع.
وهوعلى ثلاث درجات:
الأُولى: صِدْق القَصد، وبه يصحّ الدّخول فى هذا الشأْن، ويُتلافَى كلّ تفريط ويُتدارك كلّ فائت، ويعمر كلّ خراب. وعلامة هذا الصادق أَلَاّ يحتمل داعيةً يَدعو إِلى نقض عهد، ولا يصبر على صحبة ضِدّ، ولا يقعد عن الجدّ بحال.
والدّرجة الثَّانية: أَلَاّ يتمنىَّ الحياة إِلَاّ للحقّ، ولا يشهد من نفسه إِلَاّ أَثر النقصان، ولا يلتفت إِلى ترفيهِ الرُّخَص، أَى لا يحب أَن يعيش إِلَاّ فى طلب رضا محبوبه، ويقوم بعبوديّته، ويستكثر من الأَسباب الَّتى تقربّه منه، ولا يلتفت إِلى الرفاهية التى فى الرُّخَص، بل يأْخذ بها اتِّباعًا
وموافقةً، وشهودًا لنعمة الله على عبده، وتعبّدًا باسمه: اللطيف المحسن الرّفيق، وأَنَّه رفيق يحبّ الرّفق.
الدّرجة الثالثة: الصِّدق فى معرفة الصّدق. يعنى أَنَّ الصّدق المحقِّق إِنما يحصل لمن صَدَقَ فى معرفة الصدق، أَى لا يحصل حال للصّادق إِلَاّ بعد معرفة الصّدق، ولا يستقيم الصّدق فى علم أَهل الخصوص إِلَاّ على حرفٍ واحد، وهو أَن يتَّفق رضا الحقّ بعمل العبد وحاله ووقته، وإِيقانه وقصده. وذلك أَنَّ العبد إِذا صَدَق اللهَ رضى اللهُ بفعله [و] بعمله، وحاله ويقينه وقصده، لا أَن رضا الله نفس الصّدق، وإِنما يعلم الصّدق بموافقة رضاه سبحانه. ولكن من أَين يَعلم العبد رضاه؟! فمن ههنا كان الصّادق مضطرًّا أَشدّ ضرورة إِلى متابعة الأَمر والتسليم للرّسول صلى الله عليه وسلم فى ظاهره وباطنه، والتَّعبُّد به فى كلّ حركة وسكون، مع إِخلاص القصد لله؛ فإِنَّ الله سبحانه لا يُرضيه من عبده إِلَاّ ذلك.
وقوله: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} ، أَى يسأَل مَن صدّق بلسانه عن صِدق فعله. وقوله:{رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} أَى حَقَّقُوا العهد بما أَظهروه من أَفعالهم.
والصّداقة: صِدق الاعتقاد فى المودّة، وذلك مختصّ بالإِنسان. وقولُه:
{وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} إِشارة إِلى قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين} .
والصّدَقة: ما يُخرجه الإِنسان من ماله على وجه القُرْبة؛ كالزَّكاة لكن الصّدقة فى العرف تقال للمتطوَّع به، والزكاة للواجب. وقيل: سمّى الواجب صدقة إِذا تحرَّى صاحبُه الصّدق فى فعله، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . يقال: صدّق وتصدّق. ويقال لِما تجافى عنه الإِنسان من حقه: تصدُّق؛ نحو قوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} / أَى مَن تَجافى عنه. وقوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، أَجرى ما يُسامَح به المعسِر مُجرى الصّدقة، وعلى هذا قوله تعالى:{وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَاّ أَن يَصَّدَّقُواْ} ، فسمّى إِعفاءَه صَدَقَة.
وقوله: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} من الصّدق أَو من الصّدقة.
وصَدَاق المرأَة وصِدَاقها - بالكسر - وصَدُقتها - بضم الدّال -: ما تعطَى من مهرها. وقد أَصدقتها.