الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى الرضا
رَضِىَ الله عنه، ورضى عليه، يَرْضى رِضًا ورِضْوانًا ورُضًا ورُضْواناً ومَرْضاة: ضد سَخِط، فهو راضٍ من رُضاةٍ، و [ورَضِىٌّ] من أَرضياء ورُّضاة، ورَضٍ من رَضِين.
وأَرضاه: أَعطاهُ ما يُرضيه. واسترضاه وترضَّاه: طلبَ رِضاهُ. ورضيته وبه، فهو مَرْضُوٌّ ومَرْضِىٌّ.
ورِضا العبدِ عن الله تعالى أَلَاّ يكره ما يجرى به قضاؤُه. ورضا الله تعالى عن العبد أَن يراه مؤتمرًا لأَمر منتهيًا عن نهيه. والرّضوان: الرّضا الكبير. / ولما كان أَعظم الرضا رضا اللهِ تعالى خُصّ لفظ الرِّضوان فى القرآن بما كان من الله تعالى.
وقوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} أَى أَظهر كلُّ واحد منهم الرِّضا بصاحبه ورضيه. قال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} وقال: {إِلَاّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} ، وقال:{مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} ، وقال:{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ}
وقال: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} ، وقال:{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} ، وقال:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} ، وقال:{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين} وقال لنبيِّه: {لَعَلَّكَ ترضى} . قال: {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} وقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} ، وقال:{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} وقال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أَى مرضيّة. وقال: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} وقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} .
واعلم أَنَّ العلماء قد أَجمعوا على أَنَّ الرِّضا مستَحبٌّ، مؤَكد استحبابُه. واختلفوا فى وجوبه على قولين. والأَكثر على تأَكُّد استحبابه، فإِنه لم يرد الأَمر به كما ورد فى الصبر، وإِنَّمَا جاءَ [الثناءُ] على أَصحابه. وأَمَّا ما يروى من الأَثَر:"من لم يرض بقضائى، ولم يصبر على بلائي، فلْيتَّخذ ربًّا سِوَاىَ" فهذا أَثر إِسرائيلىٌّ لم يصحّ عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما عند من يَرَى أَنَّه من جملة الأَحوال الَّتى ليست مكتسبة، وأَنه موهِبة محضة. فكيف يؤمر به وليس مقدورًا!
وهذه مسأَلة اختلف فيها السّالكون على طرق ثلاث: فقال شيوخ خُراسان: إِنَّه من جملة المقامات وهو نهاية التوكل، وقال آخرون:
هو من جملة الأَحوال، يعنى هذا لا يمكن أَن يتوصّلَ إِليه العبدُ، بل هو نازلة تحُلُّ بالقلب كسائر الأَحوال. والفرق بين المقامات والأَحوال، أَن المقامات عندهم من المكاسب، والأَحوال مجرّد المواهب.
وحكمت فرقة ثالثة بين الطَّائفتين، منهم الشيخ القدوة صاحب الرِّسالة وغيره. فقالوا: يمكن الجمع بينهما بأَن يقال: مبدأُ الرّضا مكتسَب للعبد فهو من جملة المقامات، ونهايته من جملة الأَحوال، فليست مكتسبة.
واحتج شيوخ خراسان ومن قال بقولهم بأَنَّ الله تعالى مَدَح أَهله وأَثنى عليهم ونَدَبهم إِليه، فدلَّ على أَنَّه مقدور لهم. وقال النَّبى صلى الله عليه وسلم:"ذاقَ طعم الإِيمان مَن رضى باللهِ ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمد رسولاً". ورأَيت من أَصحابنا مَن نزَّل هذا الحديث على جميع معانى سورة الأَنبياءِ حرفًا حرفًا. وقال: "من قال حين يسمع النِّداءَ: رضيتُ بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمّد رسولاً غُفرت له ذنوبهُ". وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدِّين، وقد تضمّنا الرّضا بربوبيّته سبحانه وأُلوهيته، والرّضا برسوله والانقياد له. والرّضا بدينه والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأَربعة فهو الصّدّيق حقًّا. وهى سهلة بالدَّعوى واللِّسان، ومِن أَصعب الأُمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيّما إِذا ما خالَفَ هَوَى النَّفس ومرادَها، فحينئذ يتبين أَنَّ الرّضا كان على رسالة لا على حالة.
فَالرِّضا بإِلاهيَّته متضمّن للرّضا بمحبَّته وحده، وخوفه ورجائه والإِنابة إِليه، والتبتّل إِليه، وإِنجذاب قُوَى الإِرادة والحبّ كلّها إِليه، فِعل الرَاضى بمحبوبه كلَّ الرّضا، وذلك يتضمّن عبادته والإِخلاص له. والرضا بربوبيته / يتضمّن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إِفراده بالتَّوكُّل عليه والاستعانة والثقة به والاعتماد عليه، وأَن يكون راضيًا بكلِّ ما يفعله. فالأَوّل يتضمن رضاه بما يأمر به، والثَّانى يتضمّن رضاه بما يُقدِّرهُ عليه.
وأَمَّا الرّضا بنبيّه رسولاً فيتضمّن كمالَ الانقياد له والتسليم المطلَق إِليه، بحيث يكون أَولى به من نفسه، فلا يتلقىَّ الهُدى إِلَاّ من مواقع كلماته، ولا يحاكِم إِلَاّ إِليه، ولا يحكِّم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا [فى] شىء من أَسماء الرّب وصفاته وأَفعاله، ولا فى شىءٍ من أَذواق حقائق الإِيمان ومقاماته، ولا فى شىءٍ من أَحكامه ظاهره وباطنه، ولا يرضى إِلَاّ بحكمه. فإِن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاءِ المضطرِّ إِذا لم يجد ما يُقيت إِلَاّ من الميْتة والدّم، وأَحسن أَحواله أَن يكون من باب التراب الَّذى إِنما يُتيمَّمُ به عند العجز من استعمال الماء للطُّهور.
وأَمَّا الرضا بنبيّه فإِذا قال أَو حكم أَو أَمر أَو نهى رضِىَ كلّ الرضا، أو لم يبق فى قلبه حَرَج من حكمه، وسلَّم لله تسليما ولو كان مخالفًا لمراد
نفسه وهواها، وقولِ مقلَّده وشيخه وطائفته. وههنا توحشك النَّاس كلّهم إِلَاّ الغرباء فى العالم. فإِيّاك أَن تستوحش من الاغتراب والتفرّد، فإِنَّه - والله - عين العزِّ والصّحبة مع الله تعالى ورسوله، وروح الأُنس به، والرضا به ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإِسلام دينا. بل الصّادق كلَّما وجد سرّ الاغتراب وذاق حولاته وتنسّم رَوْحه قال: اللهم زدنى اغترابًا أَو وحشةً في العالمَ وأُنْساً بك. وكلَّمَا ذاق حلاوة هذا الاغتراب والتفرّد رأَى الوحشة عين الأُنْس بالنَّاس، والذلَّ عين العِزَّ بهم، والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزُبالة أَذهانهم، والانقطاع عين التعبُّد برسومهم وأَوضاعهم، فلم يُؤثر بنصيبه من الله أَحدًا من الخلق، ولم يَبعْ حَظَّه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدى عليه إِلَاّ الحرمان. وغايته مودَّة بينهم فى الحياة الدُّنيا. فإِذا انقطعت الأَسباب، وحَقَّت الحقائق، وبُعْثر ما فى القبور، وحُصِّل ما فى الصُّدور، تبيَّنَ له حَدُّ مواقع الرِّبح من الخسران. والله المستعان.
والتحقيق فى المسأَلة: أَنّ الرّضا كسبىّ باعتبار سببه، وَهْبىّ باعتبار حقيقته، فيمكن أَن يقال بالكسب لأَسبابه، فإِذا تمكَّن فى أَسبابه وغَرَس شجرته اجتنى منها ثمرة الرِّضا أَخو التَّوكُّل. فمن رسخ قَدَمُه فى التوكُّل والتسليم والتفويض حصل له الرّضا ولا بدّ، ولكن لعزَّته وعدم إِجابة أَكثر النُّفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خَلْقه رحمة
بهم وتخفيفاً عنهم، لكن ندبهم إِليه وأَثنى على أَهله، وأَخبر أَنَّ ثوابه رضاه عنهم الَّذى هو أعظم وأَكبر وأَجلُّ من الجنَّاتِ وما فيها، فمن رضى عن ربه رضى الله عنه. بل رضا العبد عن الله علامة رضا الله عنه ومن نتائجه، فهو محْفوف بنوعين من رضا الله عن عبده: رضًا قَبْله أَوجب له أَن يرضى عنه، ورضا بعده وهو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرّضا بابَ الله الأَعظم، وجَنَّة الدُّنيا، ومحلَّ راحة العارفين، وحياة المحبِّين، ونعيم العابدين، وقُرَّة عين المشتاقين.
/ ومن أَعظم أَسباب حصول الرِّضا أَن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإِنَّه يوصِّله إِلى مقام الرضا ولا بدَّ. قيل ليحيى بن مُعاذ رحمه الله: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إِذا أَقام نفسه على أَربعة أُصول فيما يعامل به ربِّه، فيقول: إن أَعطيتنى قَبِلْت، وإِن منعتنى رضيت، وإِن تركتنى عبدت، وإِن دعوتنى أَجبت. وليس الرِّضا والمحبة كالرجاء والخوف، فإِن الرضا والمحبة حالان من أَحوال أَهل الجنة، لا يفارقان فى الدُّنيا ولا فى البَرْزَخ ولا فى الآخرة، بخلاف الخوف والرَّجاءِ فإِنهما يفارقان أَهل الجنَّة لحصول ما كانوا يرجونه، وأَمنِهم مّما كانوا يخافونه. وإِن كان رجاؤهم لما ينالون من كراماته دائماً، لكنَّه ليس رجاءً مَشُوبًا بشكٍّ، بل رجاء واثقٍ بوعدٍ صادق من حبيب قادر. فهذا لون، ورجاؤهم فى الدنيا لون.
واعلم أَنه ليس من شروط الرِّضا أَلَاّ يحسَّ بالأَلم والكاره، بل أَلَاّ يعترض على الحكم ولا يسخط؛ فإن وجود التَّأَلُّم وكراهة النَّفس لا ينافى الرِّضا، كرضا المريض بشرب الدَّواءِ الكريه، ورضا الصَّائم فى اليوم الشديد الحرّ بما يناله من أَلم الجوع والظمإِ.
وطريق الرِّضا طريق مختصرة قريبة جدًّا موصلة إِلى أَجلِّ غاية، ولكنَّ فيها مشقة، ومع ذلك فليست مشقَّتها بأَصعب من مشقَّة طريق المجاهدة، ولا فيها من المفاوز والعَقَبات ما فيها، وإِنما عقبتها همّة عالية ونفس زكيّة، وتوطين النفس على كلِّ ما يَرِدُ عليها من الله، ويسهِّل ذلك على العبد علمُه بضعفه وعجزه، ورحمة ربِّه وبرّه به، فإِذا شهد هذا وهذا ولم يطرح نفسه بين يديه، ويرض به وعنه، وينْجَذِبْ دواعى حبّة ورضاه كلّها إِليه، فنفسه نفس مطرودة عن الله، بعيدة عنه، غير مؤَهَّلة لقربه وموالاته، أَو نفس ممتحنَة مبتلاة بأَصنافِ البلايا والمحن. فطريق الرضا والمحبّة تُسيِّر العبد وهو مستلْقٍ على فراشه، فيصبح أَمام الرّكب بمراحل. وثمرة الرّضا الفرح والسّرور بالله تعالى.
وقال الواسطى: استعمل الرضا جهدك، ولا تدع الرّضا يستعملك فتكون محجوبًا بلذَّته ورؤيته عن حقيقته. وهذا الَّذى أَشار إِليه عقبة
عظيمة عند القوم، ومقطع لهم، فإِن السّكون إِلى الأَحوال والوقوفَ عندها استلذَاذًا ومحبّة حجابٌ بينهم وبين ربهم، وهى عقبى لا يقطعها إِلَاّ أولو العَزائم. ومن كلامه: إِيّاكم واستحلاء الطَّاعات فإِنها سُمُوم قاتلة. فهذا معنى قوله: استعمِلْ الرّضا ولا تَدَع الرّضا يستعملك، أَى لا يكون عملك لأَجل حصول حلاوة الرّضا، بحيث تكون هى الباعثة لك عليه، بل اجعله آلةً لك وسببًا موصّلا إِلى مقصودك ومطلوبك، وهذا لا يختصّ بالرّضا، بل هو عامّ فى جميع الأَحوال والمقامات القلبيّة الَّتى يسكن إِليها القلب.
وسئل أَبو عثمان عن قول النَّبى صلى الله عليه وسلم: "أَسأَلُك الرِّضا بعد القضاءِ": فقال: لأَن الرضاء قبل القضاء عزم على الرّضا، والرّضا بعد القضاءِ هو الرضا. وقيل: الرضا: ارتفاع الجَزَع فى أَىِّ حكم كان. وقيل: رفع / الاختيار. وقيل: استقبال الأَحكام بالفرح. وقيل: سكون القلب تحت مجارى الأَحكام. وقيل: نظر العبد إِلى قَدَم اختيار الله تعالى للعبد.
وقيل للحسين بن على رضى الله عنهما: إِن أَبا ذرٍّ يقول: الفقر أَحبُّ إِلىّ من الغنى، والسّقم أَحبُّ إِلىَّ من الصحّة. فقال: رحم الله أَبا ذرٍّ، أَمَّا أَنا فأَقول: من اتَّكل على حسن اختيار الله له لم يُحِبَّ غير ما اختَارَهُ الله له.
وكتب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إِلى أَبى موسى الأَشعرىِّ: أَمّا بعد، فإِن الخير كلَّه فى الرضا، فإِن استطعت أَن ترضى وإِلَاّ فاصبر.
والرِّضا ثلاثة أَقسام: رضا العوامِّ بما قسمه الله، ورضا الخواصّ بما قدَّره الله وقضاه، ورضا خواصّ الخواصّ به بدلاً عن كلِّ ما سواه. والله أَعلم.